السودان وجدل الشريعة.. السياسي
عندما سألت نعمة الباقر، مراسلة «سي أن أن»، السماني الهادي شقيق مريم السودانية المتهمة بالردة ماذا يريد، أجاب بقوله إما أن تتوب وتعود الى حضن أسرتها ودينها، وإما أن يُقام عليها الحد، لأن تطبيق الشريعة في رأيه أهم من المشاعر الشخصية.
وهو يشير بذلك الى المادة (126) من القانون الجنائي السوداني للعام 1991 التي تنص على قتل المرتدّ. على أن سياسياً بارزاً ومثقفاً إسلامياً يقود واحدة من أكبر الطوائف الدينية في البلاد، هو الإمام الصادق المهدي، له رأي مختلف. اذ يتدخل ليدعو الى ضرورة تجميد هذه المادة ومراجعتها، وذلك على أساس أنه رغم استنادها الى الحديث المروي عن الرسول («من بدّل دينه فاقتلوه») واتفاق غالبية الفقهاء على قتل المرتدّ، أشار الى أنه لم يرد في القرآن أي نص على عقوبة دنيوية للردة. بل إن بعض الآيات تُنهى عن ذلك مثل قوله («لا إكراه في الدين») أو («ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»). ويضيف المهدي أنه من الأفضل تأسيس القانون على المقاصد الشرعية التي تقوم على بسط الحرية، كما ان هناك مجموعات كبيرة من المسلمين تعيش كأقليات في مجتمعات أخرى غير مسلمة، وتحتاج الى التأكيد على حرية الاعتقاد حتى تستطيع ممارسة شعائرها.
والجدل حول الشريعة وكيفية تطبيقها في السودان قديم، واتخذ أبعاداً سياسية واضحة، خاصة في أواخر عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري (1969-1985)، الذي لجأ الى الإعلان عن تطبيق الشريعة في مواجهة معارضة متزايدة لطريقة حكمه وتصاعد الأضرابات حتى من قبل القضاة، حيث اعتبر إعلانه تطبيق الشريعة رداً مباشراً على تحديهم له. وتبلور البعد السياسي عندما وجهت تهمة الردة لمحمود محمد طه، زعيم «الحزب الجمهوري»، الذي يتبنى أطروحة أن يرتقي المسلمون بفهمهم للإسلام، ولهذا انتقد نهج النميري في تطبيق الشريعة وتركيزه على إقامة الحدود قبل العدل، مما دفع الأخير الى اعتقاله وإعدامه في العام 1985. وأسهمت سياسات النميري الإسلامية في تأجيج الحرب الأهلية التي عادت مجدداً قبل ذلك بعامين، وإعطائها بعداً دينياً.
مزايدة سياسية
أصبحت قضية الشريعة وتطبيقها موضوع مزايدة سياسية عقب سقوط النميري. فالصادق المهدي الذي تولى الحكم بعد انهيار التجربة النميرية، رأى في القوانين التي أصدرها النميري بزعم أنها تستند الى الشريعة الاسلامية، «لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به». لكن مجموعات الإسلامويين الذين التفوا فيما بعد تحت راية «الجبهة القومية الاسلامية» تمسكوا بتلك القوانين التي مثلت لهم مخرجاً، وذلك لأنهم كانوا آخر قوة سياسية متحالفة مع النميري، رغم ان الأخير لم يستعن بالدكتور حسن الترابي زعيم هذه الجماعة الذي كان مستشاراً له عند صدور تلك القوانين.
المهدي الذي كان له مع حليفه محمد عثمان الميرغني، وهو زعيم ديني آخر، الأغلبية في البرلمان، تمكن من تمرير قرار بتجميد العمل بتلك القوانين حتى الاتفاق على بديل لها. على ان نواب الجبهة القومية الإسلامية ردوا بهجمة معاكسة، إذ طرحوا اقتراحاً بتنفيذ الحدود في كل القضايا التي اكتملت فيها كل مراحل التقاضي وبقيت تنتظر التنفيذ. لكن الحكومة بأغلبيتها البرلمانية تمكنت من هزيمة الاقتراح، الذي كان واضحا انه استهدف إحراج الزعيمين المهدي والميرغني أمام جماهيرهما ذات التوجهات الإسلامية.
وقتها كانت حكومة المهدي تسعى حثيثاً لجذب متمردي جنوب السودان بقيادة جون قرنق الى داخل البلاد والتوصل معهم إلى اتفاق سلام. ومن ثم بعثت الحكومة بوفد الى قرنق ليخبره عن إسقاط الاقتراح بتنفيذ الحدود، واعتباره خطوة تجاه المتمردين الذين تتضمن مطالبهم إعادة النظر في القوانين المستندة الى الشريعة. على ان قرنق فاجأ الوفد بالقول انه كان على البرلمان، وهو أعلى سلطة تشريعية في البلاد، أن يعدل تلك القوانين إذا كان يرى أنها غير ملائمة، وألا يكتفي فقط بتجميدها.
استمرت الحكومة الائتلافية التي ترأسها المهدي حتى انقلبت عليها الجبهة الإسلامية القومية في 1989 متخذة العميد (وقتها) عمر البشير زعيماً للانقلاب بينما كان المحرك الفعلي هو حسن الترابي، الذي ظل مهيمناً على الساحة السياسية طوال عقد من الزمان، وحتى المفاصلة بينهما في 1999، لأن البشير لم يرض بدور التابع ورأى في الترابي طموحاً للهيمنة الكلية على النظام، مما أدى إلى إبعاده واعتقاله بعد ذلك مرات عدة. بعد عامين من تسلم الإسلاميين السلطة، أعلنوا عن تطبيق للشريعة الإسلامية لتأسيس شرعية للنظام الجديد، وأصدروا القانون الجنائي للعام 1991 الذي تحاكم على أساسه مريم بالردة الآن.
في تلك الفترة، كان الترابي هو القوة الفعلية التي تدير الأمور في البلاد من منزله في ضاحية المنشية المترفة في الخرطوم. وفي ذلك القانون، ترد المادة (126) التي تغطي ثلاثة بنود: معاقبة كل من يروج للخروج من ملة الإسلام بقول صريح أو فعل، ثم يستتاب مرتكب الفعل لفترة زمنية تحددها المحكمة، واذا أصر المتهم أو المتهمة على الاستمرار في ردته يعاقب بالإعدام. وتختتم المادة بإلغاء الحكم متى تراجع المتهم عن ردته قبل التنفيذ.
ولاحظ العديد من المتابعين للشأن السياسي السوداني ان الترابي الذي غض الطرف عن محاكمة محمود محمد طه في أواخر عهد النميري، كما لم يثر اعتراضاً على القانون الجنائي المتضمن لمادة الردة عند صدوره في بدايات عهد الإنقاذ، أصبح وبعد إخراجه من السلطة منادياً بالحريات وعدم فرض الإسلام بالقوة، كما ذكر في ندوة له بالدوحة قبل سنوات ثلاث.
وفي الآونة الأخيرة، وبعد إعلان البشير عن حوار وطني جامع لا يستثني أياً من القوى السياسية، حتى تلك التي تحمل السلاح، بدا الترابي وحزبه («المؤتمر الشعبي»)، من أقرب الناس استجابة الى دعوة البشير تلك، حتى بدأ البعض يتحدث عن ان الهدف من هذا الحوار تجميع الإسلاميين وتوحيدهم مرة أخرى أو تجميع من يطلق عليهم «أهل القبلة»، أي الأحزاب التي لها توجهات إسلامية مثل «الأمة» بقيادة المهدي و«الاتحادي الديموقراطي» بقيادة الميرغني. وفيما يبدو، فإن التطورات الإقليمية واستهداف حركات الإسلام السياسي دفعت بإسلاميي السودان الى التلاقي. وفي هذه الأجواء، برزت قضية مريم، حيث أدلت كل القوى السياسية برؤاها حولها ما عدا الترابي الذي التزم الصمت، وهو صمت فسره مناوئه أنه من باب تقاربه الحالي مع النظام، الأمر الذي يشير الى الطبيعة السياسية لتعامله مع موضوع الشريعة.
الشريعة مقابل تقرير المصير
وصول البشير والإسلامويين الى السلطة مثّل تعبيرا عن ميزان جديد للقوى السياسية في السودان التي تسيّدها هؤلاء بقيادة الجبهة القومية الإسلامية بزعامة الترابي من ناحية، ثم القوى اليسارية والعلمانية التي وجدت في الحركة الشعبية بقيادة قرنق نصيراً لها من الناحية الأخرى. وأصبحت هاتان القوتان هما محركتا العمل السياسي في البلاد. ونسبة لعجز أي منهما عن تسديد الضربة القاضية للطرف الآخر، فقد توصلا الى اتفاق سلام في العام 2005 بدعم من المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
ذلك الاتفاق قام على مقايضة أساسية: الاحتفاظ بالشريعة في شمال السودان مقابل إعفاء الجنوب منها وإعطائه حق تقرير المصير بعد ست سنوات، يتمّ خلالها تقاسم السلطة والثروة بين الحكومة ومتمردي الجنوب. ومع أن الاتفاق أعطى الأولوية للوحدة، إلا أن الجنوبيين صوّتوا في النهاية للانفصال عن السودان وإقامة دولتهم المستقلة في 2011.
وفي الفترة الأخيرة، قبيل ممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير، قامت الحكومة بجهد محموم لدفع الحركة الشعبية لتتبنى خيار الوحدة رسمياً. ومن ضمن الحوافز التي طرحت عليهم أن يقتصر موضوع الشريعة على الأحوال الشخصية فقط في الواقع العملي، ومع الإبقاء على الرمزية التي يمثلها أس شرعية النظام. لكن الجنوبيين الذين كانت لهم أشواقهم القديمة للانفصال قرروا المضي قدماً وإقامة دولتهم المستقلة.
تجربة السودان السياسية أدخلت شعار الشريعة المرفوع في اختبار صعب، لوجود مجموعات من السكان لا تدين بالإسلام، الأمر الذي أشعل قضية كيفية المساواة بين مواطني بلد واحد بأديان مختلفة. كما أن الصراع السياسي الذي اتخذ له منحى عنيفاً سلّط الضوء على الجوانب الأخلاقية في ممارسة السلطة، الرافعة للشعار الإسلامي، في مجالات الحريات وحقوق الإنسان وغيرها، وجدت طريقها في النهاية الى المنظمات العالمية حتى تم تعيين مقرر خاص من قبل الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في السودان، بل ووصل الأمر الى توجيه الاتهام للبشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليصبح أول رئيس في السلطة يواجه هذه الوضعية.
على أن أثمن ما في التجربة السودانية أنها وضعت الشعار على محك الواقع التطبيقي الذي أوضح بصورة جلية أن مقولة «الإسلام هو الحل»، فيها الكثير من التبسيط المخلّ الذي لا يستطيع مواجهة تعقيدات الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والأهم من هذا ان بسط الحرية هو المدخل السليم لاصطراع الآراء وانتخاب السياسات القائمة على التوافق لا الفرض الأحادي والفوقي بقوة السلطة. بل هو المدخل الصحيح لتناول قضية الشريعة ابتداء.
المصدر: السفير