نهاية «كامب ديفيد»... «متى» وليس «هل»؟!
ابتداءً من شهر شباط من هذا العام، أي بعد أربعة أشهر تقريباً من انطلاق طوفان الأقصى، بدأت تتصاعد بشكلٍ تدريجي الأصوات القائلة بأن الكيان يقوم بانتهاكات جسيمة لاتفاقية «كامب ديفيد» الموقعة بين مصر والكيان عام 1978 ولـ«معاهدة السلام» التي تلتها عام 1979.
وتعززت هذه الأصوات مع بدء اجتياح رفح في أيار ومن ثم السيطرة على معبر فيلاديلفيا، والعمل «الإسرائيلي» على تهجير السكان الفلسطينيين قسرياً بمئات الآلاف.
أكثر انتهاكات الاتفاقية وضوحاً، هو انتهاك مادتيها الثانية والرابعة، واللتين تتعلقان على التتالي بمعبر رفح وما يسمى المنطقة (د)، والمنطقة منزوعة السلاح بعرض 3 كم، والتي من المفترض أن تكون خالية من المدرعات والسلاح الثقيل على الجانبين، وهو ما تم خرقه «إسرائيلياً»، ومصرياً أيضاً في إطار رد الفعل. وأيضاً يجري الحديث عن خرق ما تسمى «اتفاقية المعابر» أو «اتفاقية فيلادليفيا» التي تم توقيعها عام 2005 مع انسحاب الكيان من قطاع غزة في حينه، والتي تتضمن إدارة المعبر بشكلٍ مشترك من السلطة الفلسطينية ومصر، وباشتراك الاتحاد الأوروبي، مع وجود ما يشبه «حق الفيتو» للكيان على العبور.
السياق التاريخي الحاكم
بمقابل الأصوات التي ترى أن كامب ديفيد لم يجرِ انتهاكُها فحسب، بل استمرارها ككلّ بات مهدداً، توجد أصوات أخرى ترى أن هذه الأقوال مبالغات لا يوجد أساسٌ كافٍ لها؛ صحيح أن هنالك انتهاكات للاتفاقية لا يمكن إنكارها، ولكنها من جهة «انتهاكات جزئية» يمكن الرجوع عنها بمجرد انتهاء المعركة الجارية، ومن جهة ثانية، فإنه ليست هنالك أية مؤشرات سياسية جدية على أن السلطات المصرية مستعدة لتغيير تموضعها وموقفها الذي يصفه أصحاب هذا الرأي بأنه يتسم بقدرٍ عالٍ من الحياد ربما يصل حد اللامبالاة أو حتى الموافقة الضمنية على ما تقوم به سلطات الاحتلال.
ورغم أن هذه الآراء لا تخلو من وجاهة، إلا أن ما يسمح برؤية الاتجاه اللاحق لتطورات الأمور بما يخص كامب ديفيد، ليس محصوراً بالانتهاكات التي تتعرض لها، ولا حتى بالموقف الحالي للسلطات المصرية، وإنما بالدرجة الأولى بمسألة أكثر عمقاً وتأثيراً على المدى المتوسط والبعيد هي السياق التاريخي الحاكم لهذه الانتهاكات...
حين مضى السادات باتجاه كامب ديفيد، كان يجاهر برأي مفاده أن «99% من أوراق اللعبة هي بيد أمريكا»، وذلك في إطار تبريره للاتجاه الذي تبنّاه، والذي أخرج مصر من معادلة الصراع العربي-«الإسرائيلي»، بل وبالمحصلة أنهى بالتدريج وزن مصر العربي والإفريقي، وقلص نفوذها إلى داخل حدودها، وجعلها عرضةً لشتى أنواع الضغوط ومن كل الجبهات.
ورغم ذلك، يمكن القول إن فترة نهاية السبعينيّات (إذا استخدمنا الحكمة بأثر رجعي)، كانت جزءاً من مرحلة التراجع التي عاشها الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى انهياره عام 1991 والدخول في حقبة الأحادية القطبية الأمريكية. هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن السادات كان محقاً، فكامب ديفيد نفسها كانت إحدى التراكمات التي أسهمت في التراجع العام لحركة التحرر الوطني، وأسهمت تالياً بإضعاف المعسكر الاشتراكي وفي انهياره اللاحق، ناهيك عن إسهامها في إضعاف مصر نفسها كما أسلفنا.
بكلامٍ آخر، فإن السياق التاريخي الذي تم توقيع كامب ديفيد ضمنه، كان تراجع الاتحاد السوفييتي، (وليس تقدم الولايات المتحدة في الحقيقة، لأنه وفقاً لتوصيفٍ أطلقه في الثمانينيات إيمانويل والرشتاين صاحب كتاب «النظام العالمي الحديث»، فإن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كانا يتسابقان نحو مَن ينهار أولاً، في دلالة على حجم وعمق الأزمات الداخلية المركَّبة في كلٍّ منهما).
السياق التاريخي اليوم مختلف جذرياً؛ فمَن يعيش التراجع المزمن هو الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وليس ضمن سباق نحو الانهيار مع الصين وروسيا، بل ضمن اتجاه معاكس تماماً، حيث تصعد الصين وروسيا بشكل مطَّرِد اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وإلخ، وتنحدر الولايات المتحدة على كل الصعد.
وبالتوازي، وعلى المستويات الإقليمية، تجري عملية إعادة تشكيل نشطة في مختلف بقاع العالم، بحيث تتمتع القوى الإقليمية متوسِّطة القوة بهامش حركة واستقلالية أوسع بكثير مما سبق، وتنحو باتجاه تشكيل تحالفات وتفاهمات بالضبط في وجه الفوضى الهجينة الشاملة الأمريكية، التي بات الكيان «الإسرائيلي» يشكل أداةً أساسية من أدواتها المباشرة في مجمل منطقتنا.
هذا السياق التاريخي الحاكم، الذي يعني بالفعل إعادة رسم خارطة المنطقة ككل، (وعلى العكس تماماً من الطريقة التي يتمنّاها ويعمل عليها الأمريكان وأداتهم «الإسرائيلية»، هو ما يجعل من السؤال عن متى ستنهار كامب ديفيد بشكلٍ كاملٍ، عوضاً عن هل ستنهار، سؤالاً منطقياً ومشروعاً...
وربما ينبغي أن يضاف إلى هذا التصور العام، تصور أقل عمومية يخص مصر نفسها، التي تضاءل دورها ونفوذها من حدود واسعة أيام عبد الناصر كانت تمتد من شمالي سورية وعموم غربي آسيا إلى وسط إفريقيا، تضاءل إلى حدود مصر نفسها، ومن ثم انكمش ضمن هذه الحدود مع الاختراقات التي أسست لها كامب ديفيد على المستويات كافة، والأزمات المتراكمة داخلياً عبر عقود.
مع هذا الانحسار لحدود التأثير والنفوذ، ربما من المنطقي أن يبرز سؤال آخر: ما هي عتبة اختراق الأمن القومي المصري التي تنهار مصر بأكملها عند تجاوزها؟ الإجابة على أسئلة من هذا النوع شديدة الصعوبة، ولكن الأكيد هو أن ما تقوم به «إسرائيل» في غزة قد وصل أو يكاد إلى حدود تلك العتبة، أخذاً بعين الاعتبار جملة الضغوطات المتراكمة على كل الحدود المصرية... بكلامٍ آخر، باتت إعادة النظر بكامب ديفيد وبالتموضع المصري من الصراع مسألة من مستوى وجودي بالنسبة للدولة المصرية ككل... الأمر الذي يعزز من أحقية سؤال هذه المادة حول (متى) وليس (هل)...