عن غوتيريش «شخصاً غير مرحبٍ به»... والقوة العارية!
عماد طحان عماد طحان

عن غوتيريش «شخصاً غير مرحبٍ به»... والقوة العارية!

يميز غرامشي بين مفهومي «السيطرة / domination» و«الهيمنة / hegemony»؛ فالسيطرة هي قرين القوة الغاشمة، هي التحكم المباشر وفرض الإرادة بالإكراه، بالعنف، بالقسر، بالقوة المادية البحتة. أما الهيمنة، فهي التحكم غير المباشر، عبر مزيج من القوة الصلبة والقوة الناعمة، ومركز ثقلها الأساسي هو القوة الناعمة المرتكزة إلى الإقناع وخلق السرديات الملائمة للسلطة، والتي تدفع المحكومين للاعتقاد بأن مصالحهم متناغمة مع مصالح الحاكمين.

يبين غرامشي أيضاً، أن الهيمنة أكثر استدامةً ومرونة وقدرة على الحياة، بما لا يقاس، من السيطرة؛ فحتى الاستعمار الغربي بقوته العسكرية الغاشمة، كان مضطراً لخلق سرديات ثقافية معينة مصاحبة لانتشاره، ابتداءً حتى من اسمه؛ فكلمة الاستعمار colonization/colonialism ورغم أنها تحمل شحنة سلبية في الوعي العام المعاصر، وفي وعي القرن العشرين، إلا أنها، سواء بترجمتها العربية أو بأصلها الإنكليزي واللاتيني، هي كلمةٌ تحمل محتوىً لغوياً إيجابياً يتعلق بالتعمير والبناء، ويتماشى مع التنظيرات الأولى للحملات الاستعمارية، وخاصة تنظيرات جيمس ميل وابنه جون ستيوارت ميل القائلة بضرورة الاستعمار من أجل «دفع الأمم البربرية نحو الحضارة»... وهي التنظيرات ذاتها من حيث الجوهر التي كررها السنة الماضية جوزيب بوريل في حديثه عن «الحديقة والغابة»، مع فارق أن هذا التكرار بعد ما يقرب من أربعة قرون من جرائم الاستعمار الغربي حول العالم، هو أقرب لكوميديا عنصرية مقززة...

الكيان «الإسرائيلي»، ليس بمنأى عن قوانين التاريخ هذه؛ خلال نشوئه وصعوده، خلقت الصهيونية مجموعة من السرديات الثقافية بدءاً من توظيف الهولوكوست، ومروراً بأسطورة «أرضٍ بلا شعب لشعب بلا أرض»، وليس انتهاءً بالحديث عن «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».

التحول الذي نراه أمام أعيننا خلال عقدين على الأقل، وخلال العام الماضي بشكل مكثفٍ جداً ومتسارع، هو الترجمة الملموسة لخسارة الهيمنة، وللانتقال نحو القوة العارية الغاشمة غير المدعومة بأي نوعٍ من السرديات، وحتى من الأساطير، اللهم إلا الأساطير التلمودية التي لا يمكن أن تنفع كأداة هيمنة على المستوى العالمي بأي حالٍ من الأحوال.

ارتفاع عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ومحاكمة الكيان أمام أكبر محكمتين دوليتين، والمظاهرات المناهضة له حول العالم، وغير ذلك الكثير من معالم خسارة معركة السرديات، يعبر بشكلٍ وافٍ عن خسارة الهيمنة، وعن بروز «الأزمة العضوية» تالياً (وفقاً لغرامشي)، وضمناً، عن فقدان الاستدامة...

المواقف المتتالية التي يطلقها مسؤولو الكيان ضد الأمم المتحدة، هي نقطة علامٍ مهمة في هذا السياق، سواء عبر الهجوم على الأمم المتحدة نفسها أو على مؤسساتها مثل الأونروا، ووصولاً إلى الهجوم المتكرر على أمينها العام وصولاً لإعلانه شخصاً غير مرغوب فيه في الكيان... هذه كلها هي تعبير عن نقطة انعطافٍ جديدة ضمن تآكل الهيمنة؛ هي النقطة التي يعترف فيها الكيان بشكلٍ علني بأنه فقد الهيمنة، وبأنه معتمد فقط على القوة الغاشمة، على العنف والقسر والإكراه، ولا شيء غير ذلك.

 وفي حين يبدو هذا النمط من السلوك، على المستوى السطحي، تعبيراً عن عنجهية واقتدارٍ وقوة كبرى، فهو في حقيقة الأمر تعبيرٌ عن ضعفٍ بنيوي قاتل، هو تعبير عن خسارة المعركة بجانبها الثقافي الروحي المعنوي... وأي دارس للتاريخ، يعرف أن خسارة هذا الجانب هي المقدمة للخسارة الشاملة التي لا مفر منها...

ينبغي أن نضيف أن الكيان ليس وحده من يخسر هذه المعركة، ولكن معه واشنطن وعالمها أحادي القطبية... ولعل من المفيد في هذا السياق استحضار كلمات الفيلسوف الفرنسي المعروف إيمانويل تود، الذي سبق أن كان من بين المتنبئين الأوائل بانهيار الاتحاد السوفييتي، والذي عبّر في مقالةٍ مؤخراً عن أن الغرب قد خسر المعركة وانتهى الأمر؛ لأنه خسر جانبها الثقافي...

آخر تعديل على السبت, 05 تشرين1/أكتوير 2024 17:20