التعاون الروسي-الإيراني في سياق الردّ وما بعد الردّ

التعاون الروسي-الإيراني في سياق الردّ وما بعد الردّ

زار سيرغي شويغو طهران في الخامس من آب الجاري، بصفته السكرتير الحالي لمجلس الأمن الروسي، وذلك في أعقاب انتقال التصعيد في المنطقة إلى مستوى جديد بعد قيام الاحتلال الصهيوني باغتيال كل من فؤاد شكر القائد العسكري الأول في حزب الله اللبناني، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، في 30 و31 تموز الماضي على التوالي.

شويغو، الذي شغل سابقاً منصب وزير الدفاع الروسي، جاء في هذه الزيارة كأمين عام لمجلس الأمن الروسي، تلبيةً لدعوة نظيره الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى، علي أكبر أحمديان، وفقاً لما ذكرته وكالة تسنيم الإيرانية للأنباء، التي قالت إنّ الزيارة هدفها «تعزيز التواصل وبحث القضايا الإقليمية والدولية والعلاقات الأمنية والسياسية الثنائية».

والتقى شويغو أيضاً بالرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. ونقلت وسائل الإعلام عن شويغو قوله للصحفيين: «بالطبع ناقشنا في الاجتماع مع الرئيس الإيراني الجديد وأمين مجلس الأمن قضايا شملت مجموعة كاملة من المسائل بدءاً من سورية والحدود اللبنانية-«الإسرائيلية»، وكذلك بالطبع، الأحداث المأساوية الأخيرة التي وقعت في طهران».

 

 

تنسيق «طارئ» أم استراتيجي؟

 

يجدر بالذكر بأنّ مشاريع التعاون العسكري والأمني بين روسيا وإيران ليست جديدة وليست وليدة لحظة التصعيد الأخير التالي للاغتيالات في طهران وضاحية بيروت الجنوبية، فالمجال العسكري والأمني جزء من اتفاق شراكة استراتيجية شاملة تجري وضع اللمسات الأخيرة عليها لتوقيعها المرتقب بين رئيسي البلدين في اجتماع بريكس في تشرين الأول القادم، وسبق أن وصفها الجانب الروسي بالتاريخية. ولذلك يمكن افتراض أنّ زيارة شويغو لطهران في جزء منها حلقة من سلسلة طويلة من اتصالات مستمرة بالمعنى الاستراتيجي، ولكن توقيتها كذلك والمعلومات المتاحة حولها تسمح بافتراض تنسيق إضافي مستعجَل يتعلق بالمستوى الجديد الخطير للاعتداءات الصهيونية في المنطقة ومخاطر حرب أوسع.

وكتب بعض المحللين الروس حول ذلك، ومنهم مثلاً، فياتشيسلاف ميخائيلوف، في «أوراسيا ديلي»، الذي كتب بحسب ما نشرت «روسيا اليوم»:

«جاءت زيارة أمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو إلى إيران في 5 آب على خلفية توقعات مثيرة للقلق. فانتقام طهران ردًا على مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية مسألة وشيكة. ويمكن الافتراض أن مشاورات روسية إيرانية جرت في طهران لرفع مستوى التعاون في مجال الدفاع الجوي، وربما إلى حد مناقشة سبل بناء نظام دفاع جوي موحد. هناك شروط معينة لارتباط إيران بـ(مظلة واقية) إقليمية. فالمرحلة الحالية من التوتر المتبادل في العلاقات الروسية الأرمينية وميل سياسة يريفان الخارجية بوضوح نحو الغرب، للأسف، لا تساعد على تنفيذ مشاريع دفاع جوي ثلاثية [...] وقد يبدو من المنطقي تمامًا اقتراح موسكو وطهران إنشاء آليات مشتركة لتوفير الدفاع الجوي».

ولمّح كاتب المقال نفسه حتى إلى خطر النووي «الإسرائيلي»:

«حتى قبل بدء العملية العسكرية الخاصة، تحدثوا في دوائر الخبراء عن انضمام إيران إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي. إن الفائدة الأساسية التي تعود على إيران من الانضمام إلى هذه المنظمة هي الحصول على ضمانات فعلية لأمنها من دولة نووية. وفي السنوات الأخيرة، أوضحت (إسرائيل) مراراً أنها، مهما كانت التطورات في برنامج طهران النووي، فإنها لن تتخلى عن سيناريو استخدام القوة لحل المسألة الإيرانية».

وفي هذا السياق يجب أن نتذكّر بأنّ روسيا بالذات، ونظراً لتجربتها التاريخية اعتباراً من دفاعها ضد النازية حتى هزيمتها، ووصولاً إلى عودة الفاشية الجديدة المعاصرة بأشكال جديدة، اعتباراً من القاعدة في أفغانستان إلى داعش في سورية والعراق، إلى الفاشيين في أوكرانيا، فإنّ روسيا من أكثر الدول حساسيةً وإدراكاً لمخاطر الفاشية، وتفهم عقلية الفاشيين والاحتمالات الكارثية التي يمكن أن يقدموا عليها، وتدرك جيداً أنّ قيادة الأركان الفاشية في العالَم موجودةٌ في واشنطن وأنّ تل أبيب واحدة من أخطر فروعها. وبالتالي فإنّ سلوك روسيا وعلاقاتها مع القوى في العالم ومنطقتنا وأهمها مع إيران، لا يمكن إلا وأن تأخذ بالاعتبار الحقيقة التي عبّرت عنها روسيا نفسها عدة مرات خلال الحرب الصهيونية على غزة، وعلى لسان الرئيس الروسي نفسه عندما شبّه حصار الاحتلال الصهيوني لغزة من بحصار النازيين للينينغراد.

 

القوة العسكرية والسلام

 

كل هذا يجب قراءته أيضاً بالتضافر مع النشاط الدبلوماسي والسياسي الروسي، إلى جانب الصيني، بشأن القضية الفلسطينية والموقف من الحرب العدوانية على غزة، وخاصة في مجلس الأمن الدولي. وكذلك نشاط الوساطة والرعاية الروسية والصينية للمصالحة الفلسطينية كخطوة لتعزيز مشروع إنهاء الاحتلال وحلّ الدولتين وفقاً للشرعية الدولية.

فهناك تناقض متصاعد بين المصالح الوطنية الروسية ومصالح الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، ولقد تمظهر هذا التناقض بأحداث ملموسة خلال السنوات الماضية وخاصة منذ الحرب في أوكرانيا – يجدر التذكير مثلاً بالملف القضائي السياسي الذي حركته روسيا في عام 2022 ضد الفرع الروسي «للوكالة اليهودية» التابعة للحركة الصهيونية العالمية، وبالتزامن مع تصريحات الخارجية الروسية التي انتقدت «إسرائيل» علناً بسبب «دعم نظام النازيين الجدد في كييف»، حيث بات الدعم الصهيوني لكييف علنياً بالمال والمرتزقة والأسلحة، وهو الأمر الذي لم تغفره روسيا لأيّ قوة ساهمت فيه، ولن تكون «إسرائيل»، ولا الحركة الصهيونية عموماً، استثناءً من ذلك.

 

تنسيق روسي-إيراني لما بعد الردّ؟

 

إذاً، أمام إصرار إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية وحتى اليمنية، على الردّ وإعلان الردّ مسألة كرامة وطنية وضرورة ملحّة، فإنّ الردّ يبدو قضيةً حتمية، أي أنها لا تتعلّق بسؤال «هل» سيتم أم لا، بل بـ«متى» و«كيف» و«أين» بمعنى الحجم والقوة....

ويمكن قراءة أيّ تعاون عسكري وأمني إيراني-روسي متوقع في سياق احتواء تداعيات ما بعد الردّ بأنه من وجهة النظر الاستراتيجية مسألة تتعلّق بالسلام بمعناه التقدّمي لا بمعناه الاستسلامي، وهو ما لا يمكن أن يتمّ دون ردع ولجم الفاشيين الأمريكيين والصهاينة، وتحقيق المهمة الملحة حالياً في إنهاء حرب الإبادة الجماعية على غزة والانتقال إلى مسار مبشّر بحلّ نهائي عادل للقضية الفلسطينية.

وبكلمات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني فإنّ «إيران تسعى إلى إرساء الاستقرار في المنطقة، لكن هذا لن يتحقق إلا بمعاقبة المعتدي وردع النظام الصهيوني عن القيام بمغامرات».

وبالتالي من المنطقي أن تسعى إيران وروسيا إلى تنسيق عالي المستوى بما فيه العسكري، لضمان أكبر قدرٍ من أن تكون نتائج الردّ قابلة للتوقع والتحكم، وفي الوقت نفسه أن يكون ردّاً رادعاً لأيّ تصعيد أمريكي-صهيوني إضافي، إقليمي إنْ لم نقلْ عالمي، وفي هذا السياق تبدو منطقيةً التحليلات، أو التسريبات أحياناً، التي تتحدث عن تزويد الروس للإيرانيين بالمنظومات المناسبة التي تضمن ألّا يفلح أيّ عدوان صهيوني أو أمريكي جديد على إيران ومصالحها في سياق «ردٍّ على الردّ على الردّ» في أن يلحق أضراراً تفتح أبواب حرب إقليمية شاملة أو عالمية، والتي ستجد روسيا نفسها مضطرة إلى الانخراط فيها، حيث إنّ الحرب الأوسع ستكون «متنفساً» للفاشيين في تل أبيب وواشنطن لتحقيق أهدافهم، ومنها ألّا يحدث الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط إلا بعد تركه أرضاً محروقة تعرقل مصالح الخصوم الاستراتيجيين الكبار (روسيا والصين).

 

إنّ غداً لناظره قريب...

 

أخيراً، لا شك بأنّ الزمن المستقطع القصير بين الاغتيالات الصهيونية الأخيرة وبين ردّ إيران والمقاومة، يشهد محاولة ملء الفضاء الإعلامي-السياسي بآراء سطحية بشأن الاصطفافات تسعى لاختزال الصورة إلى أنّ هناك صراعاً وصل إلى لحظة خطيرة بين «قوتين إقليميتين» هما إيران و«إسرائيل» وأنّ قوّتين دوليتين كبيرتين إحداهما (روسيا) تدعم إيران والثانية (أمريكا) تدعم «إسرائيل»، في صراع على «التحاصص» و«الشراكة» في النفوذ بين «قوتين إمبرياليّتين». إنّ ما يتم حذفه من هذه الصورة المشوَّهة، هو الاختلاف الجذري بالأهداف والمصالح الاستراتيجية لكل من القوتين الدوليتين المذكورتين: فإحداهما هي قوة متراجعة عالمياً وتاريخياً؛ هي القوة الإمبريالية الحقيقية في عدوانيتها ونهبها واعتياشها المأزوم على إشعال الحروب، وتسعى لأكبر إحراق وتخريب وتقسيم ممكن في كلّ بقعة جغرافية تجد نفسها مضطرة إلى الانسحاب منها، وهذا ينطبق على «الشرق الأوسط» أيضاً. بينما القوة الثانية (روسيا)، والتي ليست لوحدها بل معها بالطبع القوة الكبرى العملاقة (الصين)، فإنهما يفصحان في نشاطاتهما وتحالفاتهما السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية في المنطقة والعالم، ومنذ سنوات، إلى أنّهما تسعيان إلى حلّ الأزمات والمساعدة في استعادة الاستقرار و«إطفاء الحرائق» التي تشعلها الإمبريالية عبر العالم، بطريقة مستدامة نحو عالم أكثر عدالة؛ عالم ما بعد إسقاط الهيمنة الأمريكية. فالنهجان متناقضان ولا مساواة بينهما.

آخر تعديل على الأربعاء, 21 آب/أغسطس 2024 16:39