شرعنة العملات المشفرة... خطوة إضافية باتجاه نظام عالمي جديد

شرعنة العملات المشفرة... خطوة إضافية باتجاه نظام عالمي جديد

أقر مجلس النواب الروسي (دوما) يوم الجمعة الماضية، 2/8/2024، قانوناً جديداً يشرعن تعدين العملات الرقمية (ضمناً البيتكوين) على أراضي الاتحاد الروسي، ويضع المحددات القانونية للقيام بذلك فاتحاً باباً واسعاً للاستثمار الحكومي والخاص واستثمار الأفراد في هذا القطاع. وسيدخل القانون حيز التطبيق في شهر تشرين الثاني من هذا العام، وستحصل أولى عمليات التبادل التجاري الدولي بين روسيا والعالم باستخدام العملات المشفرة قبل نهاية هذا العام، كما أكد البنك المركزي الروسي.

التعدين بأبسط شرح له هو تشغيل متواصل لشبكة واسعة من الحاسبات بهدف إنتاج ومعالجة وحل معادلات رياضية شديدة التعقيد، وقابلة للقياس بدقة لا متناهية تقريباً.

بالتوازي، أقرّ القانون إمكانية استخدام العملات الرقمية في التبادلات التجارية الدولية بين روسيا وبقية بلدان العالم، لتتحول هذه الشرعنة القانونية للعملات الرقمية إلى خطوةٍ إضافية في عملية التخلص من الدولرة على المستوى العالمي، وضمناً التخلص التدريجي، عبر الإحلال، من نظام سويفت.

روسيا لم تكن الدولة الوحيدة التي مشت في هذا المسار، فقد سبقتها إلى ذلك السلفادور التي وصلت حد اعتماد البيتكوين عملة رسمية لها بديلاً عن الدولار بعد أن كان اقتصادها مدولراً بالكامل، وذلك في أيلول من العام 2021، وبعد القانون الروسي الجديد، سرعان ما أعلنت السلفادور عن استعدادها للتجارة مع دول بريكس ككل باستخدام البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى، كما أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى بريكس وإنْ كانت لم تتقدم بطلب رسمي بعد.

في هونغ كونغ أيضاً، صرح عدة مشرعين عن أنهم يجهزون مشروعاً لقانون شبيه بذاك الذي أقر في روسيا، وسيدفعونه للتصويت والإقرار في وقتٍ قريب من هذا العام... الأمر نفسه ينطبق على العملاق الاقتصادي العالمي-الصين، التي بدأ الحديث يتصاعد فيها تدريجياً عن إمكانية الانتقال إلى استخدام العملات المشفرة في التجارة الدولية في وقت قريب، والذي إنْ حصل فسيتحول إلى دفعةٍ كبرى لعملية نزع الدولرة على المستوى العالمي، ناهيك عن تحويل نظام سويفت -كمرحلة أولى- من منظومة وأداة تبادل وتحكم عالمية، إلى أداة إقليمية تخص الغرب بشكل أساسي، ما سيفقدها مع الوقت وظيفتها الجوهرية كترسٍ أساسي في منظومة التبادل اللامتكافئ على مستوى العالم.

ينبغي التذكير أيضاً، بأنّ آخر قمة لبريكس، قد تحدثت عن العمل المشترك على نظام مدفوعات بديل للتجارة البينية والتجارة الدولية، وأنها أشارت في حينه إلى أنّ العملات الرقمية يمكنها أن تشكل جزءاً من هذا النظام البديل.

 

ثلاث ميزات جوهرية

تتمتع العملات الرقمية بمزايا عديدة مقارنة بالعملات التقليدية. ولعل أهم ما ينبغي استيعابه في هذا الإطار، هو ثلاث ميزات يسمح فهمها بتقدير المكانة التي يمكن لهذه العملات أن تحتلها، والدور الذي يمكنها أن تلعبه منذ الآن وفي المستقبل القريب.

الميزات الثلاث هي: 1- اللامركزية، 2- الأساس المادي، 3- الشفافية المطلقة

بالنسبة للامركزية، فالمقصود هو أنّ عملية إنتاج العملات الرقمية بطبيعتها هي عملية لامركزية، ويصعب إلى حدٍ بعيد احتكارها أو مركزتها على غرار ما تفعل البنوك المركزية مع العملات التقليدية؛ فالوسيلة الأساسية لإنتاج العملات الرقمية هي العملية المسماة «التعدين»، والتعدين بأبسط شرح له كما أسلفنا هو تشغيل متواصل لشبكة واسعة من الحاسبات بهدف إنتاج ومعالجة وحل معادلات رياضية شديدة التعقيد، وقابلة للقياس بدقة لا متناهية تقريباً.

بالنسبة للأساس المادي، فإنّ ما نعرفه عن العملات التقليدية وتطورها التاريخي، يعيدنا إلى فكرة مقياس الذهب، الذي كان يعتبر القيمة الفعلية التي تعبر عنها النقود. عملية الانفصال التاريخي التي جرت بين القيمة نفسها، أي الذهب والفضة وغيرها من أنواع النقد بأشكاله البدائية، وبين حامل القيمة أي العملة، كان أول خطوة على سلم عملية نهبٍ واسعٍ للبشرية بأسرها، بدأتها بنوك تجارية كبرى حول العالم، ثم تحولت هي نفسها إلى بنوك مركزية وباتت حاكمة للناس والدول بامتلاكها حق إصدار النقد، والذي بدأت بالتلاعب به بشكلٍ إجرامي حتى قبل أكثر من 200 عام. (على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1818، عندما كان احتياطي الذهب يساوي 2.36 مليون دولار، كانت هناك أوراق نقدية متداولة بقيمة 21.8 مليون دولار، أي أن تغطية النقود الورقية بالذهب كانت بنسبة 11%).

تكرست هذه العملية بطريقة مجنونة بعد بريتين وودز 1944، وخاصة بعد إلغاء معيار الذهب نهائياً أواسط السبعينيات... في حينه باتت طباعة النقود عملية منفصلة بشكلٍ كامل عن القيمة الفعلية، أي باتت القيمة في حالة انفصال تامٍ عن «رمز القيمة» أي النقد.

ميزة العملات الرقمية هي أنها في جوهرها (نفي نفي) لهذه العملية التاريخية المتدرجة (ذهب- نقود رمزية- عملات رقمية)، فكما الحال مع الذهب الذي يخترن في كيانه الفيزيائي قيمة العمل المبذول للحصول عليه، فإنّ العملات الرقمية تختزنها في جسدها الفيزيائي والبرمجي، قيمة العمل المبذول لإنتاجها (ضمناً الطاقة الكهربائية والعتاد المادي المصروف على إنتاج الكودات البرمجية التي هي ذاتها العملة الرقمية).

وليست مصادفة ربما، أنّ اقتصاديّين كثر كانوا قد نظروا منذ عقود، لضرورة استبدال نظام العملات بأسره في العالم، بالاتجاه نحو عملات هي وحدات طاقة، مثلاً كيلو واط ساعي، بوصفها اندماجاً واضحاً وشفافاً ولا مجال للتلاعب به بين العمل المبذول وقيمته ورموز التعبير عن تلك القيمة...

الميزة الثالثة المتعلقة بالشفافية، تكمن في أنّ العملات الرقمية، وخلافاً للعملات التقليدية، لا يمكن التلاعب بعملية إصدارها عبر الاحتيال على الجمهور بما يخص حجم الاحتياطات التي يمتلكها مُصدر العملة؛ فحتى أيام المعيار الذهبي، وكما أشرنا في مثال وضع الولايات المتحدة عام 1818، كان من الممكن لمصدر العملة أن يحتال على العامة بإصدار نقد بكميات أكبر مما يملك من الاحتياط في مستودعاته. مع العملة الرقمية هذا الأمر غير ممكن بأي حالٍ من الأحوال، لأنّ كل شيء مكشوف تماماً، بما في ذلك الكودات والمعادلات الرياضية المكونة لكل عملة.

 

خلاصة

بهذا المعنى، فإنّ الاتجاه نحو العملات الرقمية وشرعنتها، يتجاوز كثيراً الحديث المبسط حول دورها في «تجاوز العقوبات الغربية»، مع أنّ هذا صحيح تماماً بلا شك، ولكنه ليس سوى رأس جبل الجليد؛ فجوهر العملية، بتطورها، على الأقل بالمعنى النظري الصرف، هو بوابة لكسر أبسط معادلات المنظومة الرأسمالية، وأكثرها جوهرية في الوقت نفسه: معادلة (نقد- بضاعة- نقد جديد)، وعودة إلى معادلة (بضاعة-بضاعة)، ولكن مع تطور كميٍ كبيرٍ جداً...

 

 

آخر تعديل على الثلاثاء, 06 آب/أغسطس 2024 13:49