ما الذي يعنيه المقترح الذي كشف عنه بايدن؟
أعلن الرئيس الأمريكي بايدن يوم أمس الجمعة (31 أيار 2024) وخلال مؤتمر صحفي قصير من البيت الأبيض، عمّا أسماه «مقترحاً إسرائيلياً» لصفقة بين الكيان وبين المقاومة الفلسطينية.
وكانت هذه المرة الأولى منذ 7 أكتوبر التي يعلن فيها الرئيس الأمريكي عن تفاصيل الصفقة المفترضة، والتي تقول بثلاث مراحل يمتد كل منها لستة أسابيع، وتتضمن تبادلاً للأسرى وعودة لأهالي القطاع إلى كل الأماكن التي تمّ تهجيرهم منها، ولكن كالعادة، دون أي حديث واضح عن وقف كامل لإطلاق النار، وأيضاً دون حديث عن انسحابٍ كامل للجيش «الإسرائيلي» من كامل قطاع غزة، وعوضاً عن ذلك تم استخدام مصطلحات «وقف الأعمال العدائية»، وكذلك «الانسحاب من المناطق المأهولة بالسكان»، ما يعني ضمناً عدم الانسحاب الكامل من القطاع. رغم ذلك، وبغرض التضييق على نتنياهو -كما جرى حين قبلت حماس المقترح قبل بدء عملية رفح ورفضه من الكيان- فإنّ حماس أصدرت بياناً تقول فيه إنها ستتعاطى إيجاباً مع المقترح، وستناقش تفاصيله، وبالمقابل فقد خرجت عدة تصريحات «إسرائيلية» منسوبة إلى مسؤولين كبار، يُعتقد أنّ وراءهم نتنياهو نفسه، تقول إنّ «بايدن لا يفهم الواقع هنا»، وتدعو إلى «استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها».
حجم الانفصام في المؤتمر الصحفي الذي عقده بايدن، مثيرٌ للتفكُّر حقاً؛ ففي الوقت الذي قدم بايدن المقترح على أنّه «مقترح إسرائيلي»، وطالب حماس بالموافقة عليه، فإنّ جلّ وقت المؤتمر قد تمّ صرفه على توجيه خطاب بايدن للداخل «الإسرائيلي» لإقناعه بالموافقة على المقترح، الذي من المفترض أنّه مقترحٌ «إسرائيلي»! بل وذهب بايدن حدَّ التصريح بأنه يعرف بأنّ هنالك أطرافاً في الحكومة «الإسرائيلية» غير موافقة على هذا المقترح وستعمل ضدَّه، ما فتحَ الباب على أسئلة حول مَن هو صاحب المقترح الفعليّ، وهل أنّ بايدن أطلقَ هذا المقترح دون موافقة نتنياهو المسبقة؟
جوهر المسألة
مع أنه لا يمكن -نظرياً على الأقل- نفي احتمال أنّ واشنطن تقوم بخطوة منفردة تحاول إجبار الكيان على السير فيها، إلّا أنّ التجربة السابقة مع المقترحات المختلفة لإنهاء الحرب وطريقة التعاطي الأمريكي معها، وواقع أنّ واشنطن لم توقف دعمها ولو يوماً واحداً عن الكيان، بل زادته، وذلك رغم كل الكلام والتهديدات الإعلامية التي تظهر من حين إلى آخر... كل ذلك، يسمح بوضع جملة من الاستنتاجات الأولية حول هذا المقترح، وتوقيته والهدف منه:
أولاً: التبني الأمريكي العلني لمقترحٍ بعينه يتضمن اعترافاً بالمقاومة الفلسطينية، وبحماس خاصة، وبأنها الطرف المفاوض، يعني ضمناً -وأياً تكن التصريحات المصاحبة للمقترح- أنّ واشنطن تعترف بعدم إمكانية تحقيق هدف القضاء على حماس، وأنها تتعامل معها كأمر واقعٍ سيبقى قائماً وقتاً طويلاً قادماً.
ثانياً: يحاول بايدن، وفي إطار التحضير المستمر للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، أنْ يكسب نقاطاً باعتباره «رجل سلام» وباعتباره ساعياً لوقف الحرب، بالتوازي مع إعادة التأكيد المستمرة على صهيونيته.
ثالثاً: تحاول النخبة الأمريكية استعادة الموقع الحصري للحَكَم والقاضي بما يخصّ القضية الفلسطينية، عبر الإيحاء بدور الوسيط، خاصة بعد دخول دولٍ عديدة على الساحة، بينها في الأشهر الأخيرة الصين التي دخلت على خط المصالحة الفلسطينية.
رابعاً: ربما أهم ما في الأمر أنّ «المقترح» سواء أكان صاحبه «إسرائيلياً» أم أمريكياً، فإنّه يأتي في ظل تعمق أزمة الكيان الداخلية، وأزمته العسكرية على كل الجبهات، ابتداءً من وقوع أسرى جدد في غزة، مروراً بارتفاع مستوى المقاومة المسلحة في الضفة الغربية إلى مستوى ربما غير مسبوق تاريخياً، وأيضاً ارتفاع مستوى التصعيد على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وزيادة عمق الهجمات التي ينفذها حزب الله وحجمها، وصولاً إلى نشاط الحوثيين الذي وصل حد توجيه ضربة إلى حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور، وهو أمر لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية... كلّ هذه الوقائع، تجعل من البحث عن مخرجٍ سريعٍ قدر الإمكان، مصلحة أمريكية-«إسرائيلية».
خامساً: رغم هذا كلّه، لا يمكن الركون إلى أنّ واشنطن قد عَدَلَتْ فعلاً عن استراتيجيتها القائمة على استخدام النار واستمرارها في غزة، كأداة في تفعيل الفوضى الشاملة الهجينة في كل المنطقة. ما يعني أنّه من غير الممكن الركون للقول إنّ واشنطن تريد فعلاً إنهاء الحرب على غزة. وليس مستبعداً أن نكون أمام محطة جديدة من النفاق المشترك الأمريكي/الصهيوني الهادف إلى إطالة الحرب ولكن مع العمل على ضبط درجة انتشارها... (مع أنّ هذا الأمر نفسه، وبحكم تجربة الشهور الماضية، لم يعد مضموناً بحال من الأحوال).
أخيراً: في الوقت الذي يبدو فيه تأخير إنهاء الحرب على غزة محاولة أمريكية صهيونية لمنع إعلان الهزيمة، ومحاولة لتغيير مجمل الإحداثيات بحيث تتحول الهزيمة الفعلية إلى نصر (خاصة عبر المحاولات الفاشلة لبث الروح في اتفاقات أبراهام وتوسيعها)، أو على الأقل إلى نصف هزيمة، فإنّ كلّ تأخير إضافي، من شأنه أن يعزز تلك الهزيمة، وأنْ يحوّل الملف الفلسطيني إلى محورٍ أساسي من محاور الهزيمة الأمريكية الشاملة إلى جانب أوكرانيا وتايوان وأفريقيا الوسطى وغيرها من ساحات الصراع الدولي...