هزيمة «إسرائيل» تعني التفكير أبعد من عسكرها الذين يجب هزيمتهم...
إنّ الحرب ضدّ «إسرائيل» هي حربٌ تجاوز في أساليبها البعد العسكري. ليس هذا بالأمر الجديد أو المستغرب، فعندما ننظر إلى «إسرائيل» بوصفها أحد مشاريع الصهيونية العالمية/الوكالة اليهودية، علينا أن ندرك على الفور بأنّنا في مواجهة محاولات إدامة الهيمنة المالية لرأس المال. لكن من المفيد هنا أن نكون أكثر تحديداً وتفصيلية، وأن نتناول بعض الأشكال العملية غير العسكرية التي تستخدمها «إسرائيل» والولايات المتحدة، من أجل قمع الفلسطينيين وكبح مطالباتهم بالحرية والاستقلال.
ما بين النكبة والانتفاضة الأولى
منذ إقامة دولة الاحتلال الصهيوني في 1948 على أرض فلسطين، والأمران الثابتان هما المحاولات المستمرة، وبشتّى الوسائل، لتهجير الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم. لا يمكن تخيّل دولة فصل عنصري استعمارية دون هذين المكونين. لكن كما قلنا، فشتّى الوسائل تجاوز بعدها العسكري، والذي ترك بصماته الهمجية في أكثر من مكان عبر القتل والتنكيل والمجازر.
لنأخذ مثالاً مسألة الزراعة. يُمنع على الفلسطيني أن يزرع أشجاراً مثمرة في أرضه دون الحصول على موافقة مسبقة، وهي الموافقة التي لا يتمّ منحها إلّا بشروط تكاد تكون تعجيزية أو مستحيلة. ووفقاً للقوانين «الإسرائيلية»، تتمّ مصادرة الأراضي الفلسطينية غير المزروعة، بغض النظر عن كون عدم السماح للفلسطينيين بزراعتها هو من قبل سلطات الاحتلال!
ينطبق الأمر ذاته على ورشات العمل التصنيعية، والتي يتمّ فرض قيودٍ شديدة عليها بحيث يتمّ التحكم في حجمها ومنعها من أن تتكوّن بحريّة. وهو الأمر الذي بات أمراً واقعاً بعد حرب حزيران وسيطرة «إسرائيل» على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية التي لم تكن بيدها.
الأمر الآخر هو منع فلسطين والفلسطينيين من الإتجار مع أيّ شركة غير «إسرائيلية» أو دولة أخرى، وجعلهم مرتبطين بشكل قهري بالسوق «الإسرائيلية»، وبالشركات العاملة فيه. وضمن هذا السياق، ومع تقلّص الزراعة - المكوّن الرئيسي لفلسطين التقليدية - لم يكن أمام الشباب الفلسطيني سوى العمل في السوق «الإسرائيلية»، أو السفر خارجاً وإرسال المال والحوالات إلى ذويهم.
ومع الوصول إلى سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، أدّى هذا إلى خنق الفلسطينيين وجعلهم يعتمدون بشكل كلي أيضاً على الاستيراد من «إسرائيل» وعبرها فقط بنسبة 90٪ من حاجاتهم، وربط العمالة بها بحيث كان ثلث العمّال الفلسطينيين يعملون في «إسرائيل».
كلّ هذا كان جزءاً من سياسة «إسرائيلية»-أمريكية لربط الفلسطينيين بشكل تام «بإسرائيل» على طريق تحييد مقاومتهم وإبقائهم في حالة تبعية. لكنّ المقاومة ومقاطعة البضائع «الإسرائيلية» داخل فلسطين، والإضرابات، والتي انتهى بها المطاف إلى إشعال الانتفاضة الأولى في 1987، وتزامن كلّ ذلك مع انهيار اقتصادي في الكيان، جعل من الأحلام «الإسرائيلية»-الأمريكية في ترويض الفلسطينيين أضغاث أحلام، ورفع تكاليف الاحتلال عالياً جداً.
أوسلو وبروتوكول باريس 1994
كان اتفاق أوسلو 1993 مخزياً ونقطة سوداء في مسيرة النضال الفلسطيني ضدّ الصهاينة أدّت لخلق «السلطة الفلسطينية» التي أقلّ ما يقال عنها بأنّها «فاسدة» وعميلة. ولكن في باريس، وكاتفاقية ملحقة بأوسلو، تمّ توقيع اتفاقٍ أكثر سوءاً ووحشيّة ضدّ الفلسطينيين: بروتوكول باريس الاقتصادي 1994.
يقوم بروتوكول باريس بتنظيم مناحي اقتصاد الفلسطينيين كافة، ويجعل جميع الأعمال الفلسطينية مجرّد ركن ملحق بالاقتصاد «الإسرائيلي». كان من شأن بروتوكول باريس أن يعيد التوازن إلى الاحتلال الذي سددت له الانتفاضة ضربات قاسية، ويجعله مربحاً من الناحية الاقتصادية.
من البنود الهامة في البروتوكول، أنّ الفلسطينيين لا يملكون لا بنكهم المركزي ولا عملتهم الخاصة، بل يعتمدون على البنك المركزي «الإسرائيلي» وعلى عملة الشيكل. في التطبيق العملي، يعني هذا أنّ التحويلات والمدفوعات الفلسطينية يجب أن تمرّ بالبنوك «الإسرائيلية» والتي تقوم بدورها بأخذ رسومها منها، وتحتفظ بالعملة الصعبة وتعطي الفلسطينيين شيكلاً بدلاً عنها.
الأمر الآخر مرتبط بالضرائب، حيث تقوم «إسرائيل» بتحصيل الضرائب من الفلسطينيين الذين يعملون خارج أراضي «السلطة الفلسطينية»، أي فعلياً في فلسطين المحتلة بأكملها. ويجمعها، وهو الذي يراقبها ويحوّلها «للسلطة الفلسطينية». لتبقى الأموال في البنوك «الإسرائيلية» لأطول فترة ممكنة، أو لا تخرج منها حتّى.
إضافة لذلك، فإن «لإسرائيل» وحدها الحق بمراقبة الحدود والمعابر، وتحصيل الرسوم والضرائب من السلع الخارجة والداخلة من وإلى فلسطين والفلسطينيين. عنى هذا في التطبيق الواقعي أنّ على الفلسطينيين أن يدخلوا شريكاً إلزامياً من «إسرائيل» لضمان أن تخرج وتدخل بضائعهم بشكل أكثر سلاسة بدل أن يتمّ إيقافها لشهور. ناهيك عن فرض رسومٍ إضافية على المنتجات الفلسطينية تجعلها تكسد في الأسواق الداخلية مقارنة بالمنتجات «الإسرائيلية» الأرخص ثمناً.
الشيكل ابن الدولار
ومثلما يفعل الدولار في العالم، بحيث تتمّ طباعته دون قيود، ويتحمل الذين يعملون وينتجون تكاليفه الحقيقية. الفلسطينيون مضطرون عبر عمالتهم وجهدهم أن يتحملوا تكاليف «الشيكل» الذي تضاعفت كمية المعروض منه 14 ضعفاً منذ عام 1994.
بسبب هذا الربط، وتحميل الفلسطينيين العبء الأكبر في دعم العملة «الإسرائيلية»، لا يمكن للفلسطينيين أن يدخروا، وبالكاد يمكنهم العيش، والفلسطينيّ مضطر للاستدانة بشكل مستمر من البنوك «الإسرائيلية»، أو الفلسطينية التابعة «للإسرائيلية» بشكل مُلزم، ودفع الفوائد من أجل أن يتمكن من إتمام حياته. ناهيك عن السياسة المنهجية لدى القطاع المصرفي «الإسرائيلي» برفض استلام عملة الشيكل ذاتها من الفلسطينيين، تحت ذرائع متعددة.
أمّا التحويلات الخارجية إلى فلسطين، والتي يرسلها الأفراد ممّن يعملون في الخارج لأهلهم وعوائلهم، فيجب أن تمرّ بالمؤسسات المالية «الإسرائيلية» والغربية الأخرى. وهذه التحويلات عليها قيود شديدة ورسوم مرتفعة، إضافة للرشاوي التي يجب على الفلسطينيين دفعها «للسلطة الفلسطينية» من أجل السماح لهم باستلامها، وإلّا ستقوم السلطة بإبلاغ «إسرائيل» بأنّ هذه الحوالات مشبوهة، فتقوم بإلغائها.
المساعدات المالية لفلسطين!
إذا ما نظرنا إلى نصيب الفلسطينيين الاسمي من المساعدات المالية العالمية، فسيظهر لنا بأنّها من بين الأعلى، وأنّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما ثاني وثالث أكبر المانحين. لكنّ السؤال هنا: هل المساعدات المالية للفلسطينيين هي حقاً للفلسطينيين؟
في دراسة للباحثة نيكي تيلكنز، ظهر بأنّ 71٪ من المساعدات القادمة إلى فلسطين ينتهي بها المطاف في الاقتصاد «الإسرائيلي»، فما بين عامي 2000 و2008، تمّ تخصيص 12 مليار دولار كمساعدات لفلسطين، لينتهي المطاف بـ 8.7 مليارات دولار منها في الاقتصاد «الإسرائيلي».
يتمّ هذا على عدّة مراحل: الأولى هي عندما تتمّ التحويلات إلى الفلسطينيين عبر البنوك «الإسرائيلية» التي تقتطع الرسوم وتحوّل الأموال لشيكل. الثانية هي عند قيام الفلسطينيين بشكل إلزامي بشراء المنتجات والسلع والخدمات من الشركات «الإسرائيلية». الثالثة هي عندما يدفع الفلسطينيون الضرائب والرسوم على السلع والمنتجات والخدمات التي تمّ شراؤها من الشركات «الإسرائيلية».
أمّا ما تبقى، فليس بالضرورة أن يحصل عليه الفلسطينيون. يسلّم الباقي إلى السلطة الفلسطينية التي تقوم عبر الفساد من جهة، وعبر الاستثمار في أدوات القمع الداخلي من جهة أخرى، باستنزاف الجزء الأكبر منه. وصف الباحث الاقتصادي شير هيفر هذا الترتيب «بالمشروع الاقتصادي المربح (لإسرائيل) وشركات السلاح والسلطة الفلسطينية».
إنّ «إسرائيل»، بوصفها مشروعاً لرأس المال المالي العالمي، قد أثبتت دوماً بأنّها وحشية بقدر صانعها. فمنذ وعد بلفور، والذي كان في حقيقته رسالة حكومية بريطانية إلى اللورد آرثر روتشيلد، زعيم مملكة المال الشهير، لا يمكنها أن تعيش دون هذه التكتيكات والاستراتيجيات الوحشية. من هنا كان لزاماً أن ندرك بأنّ ديناميكية الهيمنة «الإسرائيلية» في فلسطين لا تعتمد فقط على الاستخدام الوحشي للقوى العسكرية، بل تتجاوزها عبر وسائل قمع اقتصادي شديدة الوقاحة والوضوح.