لماذا يثرثر الأمريكان كثيراً حول المفاوضات بين الفلسطينيين والكيان؟
منذ انتهت الهدنة الوحيدة القصيرة في غزة، نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي، أي قبل أكثر من أربعة أشهر وحتى الآن، لم يكد يمر أسبوعٌ لم يتحدث فيه المسؤولون الأمريكان، ومسؤولون عرب وأوروبيون، عن «عملٍ حثيثٍ» عبر المفاوضات بين المقاومة الفلسطينية وبين حكومة الكيان، للوصول إلى «هدنة إنسانية» أخرى، ومؤخراً -بعد قرار مجلس الأمن الداعي لوقف إطلاق النار- عن مفاوضات للوصول إلى وقفٍ لإطلاق النار.
تضمنت الثرثرة الأمريكية اجتماعات عقدت في باريس وفي القاهرة وفي الدوحة، وتضمنت جولات مكوكية لوزير الخارجية الأمريكي ولمسؤولين أمريكيين من مختلف الصنوف والأنواع. كذلك فقد تضمنت عشرات المشاريع والاقتراحات التي تروح وتجيء دون أن تقترب من جوهر المسألة، ودون أن تكون صالحة حتى كمسودة لأي اتفاق واقعي، يعكس -دعك من المبادئ والحقوق- الأوزان الحقيقية على الأرض... ما يجعل من المشروع تماماً طرح السؤال عن الغايات الأمريكية من هذه الثرثرة المستمرة المنافقة حول سعي واشنطن للوصول إلى اتفاقٍ وإلى هدنة -ناهيك عن وقف إطلاق النار...
المنطق الذي يسمح بتحديد غايات هذا السلوك الأمريكي، هو ذاك الذي ينطلق من فهم الاستراتيجية الأمريكية العامة تجاه هذا العدوان «الإسرائيلي»، ليس من منظور فلسطيني فحسب، بل من منظور كامل منطقة الشرق الأوسط، ومن منظور الصراع الدولي الجاري والمتصاعد أيضاً.
لن نطيل هنا في الحديث عن هذه الاستراتيجية، فقد تحدثت عنها قاسيون مراراً وبشكلٍ موسع (انظر مادة مركز دراسات قاسيون بتاريخ 29/11/2023: ماذا يكمن وراء ثلاثية واشنطن؟).
باختصار، فإنّ النار المشتعلة في فلسطين، هي بالنسبة لواشنطن إحدى أدوات رفع حرارة كامل الإقليم، تدعمها أدوات أخرى هجينة من مختلف الأنواع وصولاً إلى تعميم الفوضى الشاملة الهجينة في كامل المنطقة، والتي تستهدف فيما تستهدف مصر والسعودية، وتستهدف منع الانتقال التكتوني التدريجي بالمعنى السياسي من تحت الهيمنة الأمريكية، باتجاه التعاون والتناغم ضمن توازن دولي جديد مع القوى الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين.
بالعودة إلى موضوع الثرثرة حول المفاوضات، فربما بين أهم استهدافاتها ما يلي:
أولاً: التغطية على المخطط الأمريكي الأساسي التفجيري في مجمل المنطقة، عبر المحاولات المستمرة للإيحاء بأنّ الولايات المتحدة تسعى فعلاً للوصول إلى استقرارٍ ووقفٍ لإطلاق النار... وهو أمرٌ لا ينطلي على أحد بطبيعة الحال، ولكنّ الأمريكي، ومع تحوله الصريح نحو السياسات الفاشية على المستوى العالمي، بات مضطراً أكثر فأكثر على تبني سياسة غوبلز: اكذب ثم اكذب ثم اكذب، لعل شيئاً يعلق في أذهان الجماهير.
ثانياً: رغم الانحياز الأمريكي الكامل الذي لا تخطئه عين ولا أذن ولا قلب للكيان الصهيوني، إلا أنّ واشنطن ما تزال مصرة على احتلال موقع «الحكم» و«الخصم» في آن معاً. وهي الآن مصرة أكثر من أي وقت مضى على احتلال موقع الحكم-الوسيط تحديداً، لأنّ الظروف الموضوعية قد نضجت مجدداً لدخول القوى الصاعدة وخاصة روسيا على خط الوساطة المباشر، وهو ما لا تريده واشنطن بأي حالٍ من الأحوال، خاصة وأنّ ذلك سيعني التهافت النهائي العملي لمشروع «الشرق الأوسط الكبير والجديد» ومعه «اتفاقات أبراهام» و«الناتو العربي»، الموجه أساساً ضد الصين وروسيا في نهاية المطاف، حتى وإنْ قيل إنه موجه ضد إيران وحدها.
ثالثاً: تمثيل دور الوسيط الساعي لإنهاء الحرب عبر المفاوضات، يساعد الأمريكي في تخفيف الضغوط المتصاعدة عليه على المستوى الشعبي العالمي... ويخفف برأيه من سرعة التهاوي القيمي والأخلاقي والثقافي لصورة واشنطن في أعين البشرية بأسرها، بما في ذلك الشعوب الغربية والشعب الأمريكي.
رابعاً: من شأن الإكثار من الثرثرة حول المفاوضات أن تخفف أيضاً من حدة الضغوط السياسية الدولية، وليس الشعبية فقط، على واشنطن.
خامساً: من شأنه أيضاً، أن يمثل محاولة في تخفيف الضغوط على الأنظمة العربية المطبّعة، التي تحاول تبرئة ذمتها عبر الانخراط في هذه الثرثرة المستمرة حول المفاوضات، وأن يخفف من غضب شعوبها الذي من شأنه أن يحمل بذور تغيرات في المواقف غير تلك التي تريدها الأنظمة أو تريدها واشنطن.
سادساً: وربما هذا هو الأهم وهو استكمال أولاً، أنّ هذا السلوك الثرثار من شأنه أن يخدّم الاستراتيجية الأساسية الأمريكية: إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، وبما يخدم استكمال عناصر الفوضى الشاملة الهجينة في المنطقة؛ فطالما تحتل واشنطن موقع «الوسيط»، وترتضي دول عربية أساسية ذلك، وتلعب دول أوربية مثل فرنسا مثلاً، الدور المخادع نفسه، فإنّ المفاوضات يمكن أن تمتد إلى ما شاء الله، بينما القتل والحرب مستمران على الأرض.
وقائع الميدان الغزي من جهة (والتي يصلى فيها العدو ناراً حارقة)، ووقائع الحراك الشعبي العالمي المضاد للصهيونية، ووقائع التوازن الدولي الجديد الذي تتسارع ترجمته في كل زاوية من زوايا العالم بما في ذلك في مؤسسة الأمم المتحدة الهرمة وغيرها من المحافل والساحات... هذه الوقائع كلها لا تقول فقط إنّ الثرثرة الأمريكية لم تعد تنطلي على أحد، بل تقول أكثر من ذلك: تقول إنّ هذه الثرثرة لن تعفي واشنطن من تحمل الخسارة كتفاً بكتف مع الكيان الصهيوني، وربما بشكلٍ أكثر خطورةً وأوسع امتداداً...