كيف يمكن أن نفهم العقوبات التركية على «إسرائيل»؟
مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزّة الذي تلا عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي، يتعرض الكيان الصهيوني إلى عزلة أكثر فأكثر وخصوصاً مع التحركات الدولية في هذا الخصوص، سواء في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصولاً إلى محكمة الجنايات الدولية، ما مهد فعلياً إلى سابقة تتمثل بفرض عقوبات على «إسرائيل» وهو ما قامت به تركيا بالفعل في شهر نيسان الجاري.
الخطوة التركية تحمل أهمية كبيرة على عدة مستويات، فيرى البعض فيها خطوة من الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى من خلالها إلى ضبط الأجواء السياسية في الداخل بعد نتائج الانتخابات المحلية التي تراجع فيها حزبه، العدالة والتنمية، بينما يبدو أن تدقيقاً أشملَ في القرارات التركية الأخيرة يؤشر إلى هدف أوسع من ذلك بكثير وربما تكون تركيا صافرة البدء لعقوبات أوسع وأشمل على المستوى العالمي.
عن أي عقوبات نتحدث؟
أعلنت وزارة التجارة التركية في 9 من نيسان الجاري، تقييد الصادرات التركية إلى «إسرائيل» وقالت في بيانٍ لها إن القرار يشمل 54 منتجاً، منها الإسمنت، وحديد الإنشاءات، والفولاذ المسطح، والرخام، والسيراميك. وأكدت الوزارة في البيان ذاته، أن تقييد الصادرات هذه سيظل سارياً «حتى تعلن تل أبيب وقفاً فورياً لإطلاق النار على غزّة وتسمح بتقديم مساعدات كافية ومتواصلة للفلسطينيين».
وما يثير الانتباه في البيان المذكور أن تركيا اعتبرت أنَّ إجراءاتها هذه جاءت رداً على تجاهل الكيان لكل القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، معتبرةً أن هذه المؤسسات تشكل اللبنات الأساسية للقانون والنظام الدوليين، وقالت في البيان إن القرارات الصادرة عن هذه المؤسسات ملزمة للدولة التركية، وأنها ستراقب تنفيذها داعية جميع أعضاء المجتمع الدولي للقيام بدورهم لضمان امتثال «إسرائيل» للقانون الدولي.
ما إن أعلنت تركيا عن قرارها هذا، حتى رد وزير الخارجية الصهيوني إسرائيل كاتس في تصريح على موقع x قائلاً: «سنرد وفقاً لذلك ونعد قائمة موسعة من المنتجات الإضافية التي ستمنع [إسرائيل] تركيا من تصديرها» لكن مدى فاعلية القرار التركي لم تتضح فوراً، لكن الصحافة العبرية وبعض التقارير الغربية أثبتت أن المنتجات المشمولة في القائمة سيكون لها تأثير ملموس على أكثر من صعيد. فبحسب «تايمز أوف إسرائيل»: «إن القيود التجارية المفروضة، والتي تؤثر في الغالب على السلع التي يعتمد عليها عمال البناء [الإسرائيليون]، ستجبر المستوردين على البحث عن موردين بديلين من دول أخرى، وبالتالي تكبّد تكاليف إضافية تعني ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين والشركات»، وأضاف التحقيق ذاته نقلاً عن جمعية البناء في «إسرائيل» أنهم يستوردون نحو 70% من مواد البناء الحديدية ونحو ثلث احتياجاتها من الإسمنت من تركيا، وتستخدمها بشكل رئيسي في عمليات البناء، بالإضافة إلى لوازم إكساء الحمامات. ونقلت «تايمز أوف إسرائيل» عن نائب المدير العام للجمعية أن: «تركيا ليست المنتج الوحيد لمواد البناء الأساسية المصنعة، لكنها أرخص، وهي الأقرب جغرافياً» ليضيف: «الآن سيحتاج المستوردون [الإسرائيليون] إلى البحث عن موردين بديلين مما سيجعل البناء أكثر تكلفة».
هل تركيا جادة في خطوتها؟
التبادل التجاري مع الكيان تأثر منذ 7 أكتوبر بشكلٍ ملحوظ، إذ انخفضت نسب الصادرات التركية بنسب متفاوتة خلال هذه المدة وتراجعت في الأشهر الخمسة الأولى من الحرب بنسبة 28% لتصل إلى 1.9 مليار دولار، وشكّلت مواد البناء النسبة الأكبر من حجم التبادل التجاري إذ تمثل منفردة ثلث فاتورة المستوردات [الإسرائيلية] حسب مجلة بلومبيرغ، ما يعني أن وقف تصدير هذه السلع يعتبر خطوة مؤثرة حقاً، وإلى جانب الضرر الذي يمكن أن يلحق بالكيان فهناك أضرار لا بد منها على الاقتصاد التركي إذ ستكون الشركات الموردة هناك مضطرة للبحث عن وجهات جديدة.
وفي السياق ذاته يمكن أن يكون للخطوة التركية ارتدادات أخرى أكثر خطورة فبعض القوانين في الدول الغربية تحظر مقاطعة «إسرائيل» وهناك على سبيل المثال قوانين من هذا النوع في 38 ولاية أمريكية ما يمكن أن يعرض تركيا وشركاتها لإجراءات جوابية من خارج «إسرائيل» التي كان ميزانها التجاري مع تركيا خاسراً، ورغم أن اتخاذ الولايات المتحدة خطوات من هذا النوع لا يزال احتمالاً مستبعداً بنظر الخبراء، إلا أنه يبقى خطراً قائماً لا يجب إهماله وخصوصاً مع إشارة وزير الخارجية «الإسرائيلي» إلى أن حكومة الكيان ستطلب من الكونغرس الأمريكي «فحص انتهاك قوانين المقاطعة وإمكانية فرض عقوبات على تركيا». من جهة ثانية يمكن أن تترتب على تركيا تبعات إضافية كونها خالفت اتفاقية تجارة حرة موقّعة عام 1996 مع «إسرائيل» وألغت اتفاقيات تجارية من جانب واحد وهو ما قد يعطي ذريعة كافية للكيان للجوء إلى منظمة التجارة العالمية. هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تركيا كانت تسعى لإيجاد تفاهمات مع الكيان فيما يخص ثروات البحر المتوسط ويمكن لتقييد الصادرات أن يعرّض هذه المباحثات للخطر.
يوضح ما سبق أن القرار التركي ليس استعراضياً بل خطوة سياسية محفوفة بالمخاطر وهو ما يجعل تفسيره على مستوى السياسة الداخلية في تركيا قاصراً، فالرئيس التركي كان يتعرض بالفعل لضغوط من شارع عريض مناصر للقضية الفلسطينية والذي كان يهاجم استمرار العلاقات التركية مع الكيان وخصوصاً التجارية منها، وسيكون للقرار الأخير صدى إيجابي في الشارع يمكن أن يعيد بعضاً من شعبية «العدالة والتنمية»، لكن الخطوة التركية تأخذ منحى أوسع، فالبيان الرسمي أشار بوضوح إلى أن الكيان يخالف القانون الدولي وعلى هذا الأساس يجب أن يكون هناك إجراءات جوابية وهو ما يعطي الخطوة التركية شرعية دولية ويحرج في الوقت نفسه كل الدول التي تقيم علاقات تجارية مع الكيان وخصوصاً في المنطقة العربية ما يعطي تركيا زخماً إضافياً بين الدول الإسلامية التي تسعى لفرض وقفٍ لإطلاق النار، ففي هذه الحالة تأخذ تركيا خطوة استباقية مع تغطية سياسية كافية وخصوصاً بعد أن طلبت أنقرة رسمياً من الكيان إسقاط مساعدات من الجو على غزّة لكن الاحتلال رفض الطلب، وهو ما منح القيادة التركية مبررات لاتخاذ قرار وقف تصدير سلع حيوية. من جانبٍ آخر تبدو الخطوة ذات بعد إضافي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون تركيا بلداً عضواً في حلف الناتو ما يمكن أن يكون سابقة بحد ذاته ويضع الدول الغربية بموقع المعيق لتنفيذ الشرعية الدولية، أي عكس الصورة التي صدّرها عن نفسه خلال عقود.