«رأس الحكمة»... هل ستُحَلّ أزمةُ الاقتصاد المصري أم ستتعمق؟

«رأس الحكمة»... هل ستُحَلّ أزمةُ الاقتصاد المصري أم ستتعمق؟

أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى المدبولي يوم الجمعة الماضي، 23 شباط، عن صفقة «رأس الحكمة». ومنذ ذلك الإعلان وحتى الآن، يدور نقاش واسع حول جانبين أساسيين، الأول اقتصادي مالي يتمحور حول دراسة مدى تأثير هذه الصفقة في الوضع المصري الذي كان وما يزال يعيش أزمة عنوانها الديون وسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، والثاني سياسي يطرح أسئلة حول طبيعة الشروط السياسية لهذه الصفقة -إنْ وجدت- خاصة أنّ توقيتها قد جاء مزامناً لما يجري في غزة وللضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها مصر، وأنّ الطرف الثاني للصفقة هو الإمارات ذات الاصطفاف المعروف بالمعنى الإقليمي.

التفاصيل المعروفة للصفقة

رغم أنّ أرقاماً وتفاصيلَ عديدة قد تمّ الإعلان عنها بما يخص الصفقة، إلا أنها ما تزال جزءاً صغيراً من إجمالي التفاصيل والأرقام لصفقة ضخمة تقدر بالمجموع بما يصل إلى 150 مليار دولار لكامل فترة المشروع.

التفاصيل المعروفة حتى الآن، هي التالية:

  • المشروع هو بناء تجمع مدني جديد على أرض مساحتها 55 ألف فدان في منطقة رأس الحكمة على الساحل الشمالي في مرسى مطروح، وتشمل تجمعاً عمرانياً بمساحة 40.7 ألف فدان، ومشاريعَ تنموية متعددة ضمن هذه المساحة. وتم تقسيم المساحة إلى 11 منطقة تستوعب 300 ألف ساكن.
  • ستحصل مصر خلال الشهرين القادمين على 35 مليار دولار كرأس مال أولي للبدء بالمشروع، تنقسم إلى 24 مليار دولار نقداً، إضافة إلى تحرير ودائع إماراتية في البنك المركزي المصري قدرها 11 مليار دولار.
  • ستبلغ التكلفة الإجمالية التقديرية للمشروع طوال فترة إنشائه (غير المحددة بشكل واضح بما تم إعلانه، ولكن يقال إن الفترة هي 10 سنوات)، 150 مليار دولار.
  • ستحوز مصر 35% من أرباح المشروع.

التأثيرات المباشرة للإعلان

بمجرد الإعلان عن الصفقة، بدأ سعر صرف الجنيه المصري بالتحسن بسرعة كبيرة، حيث كان قد وصل قبل أيام من الإعلان عن الصفقة إلى 73 جنيهاً للدولار الواحد، وبعد التسريبات التي نشرت حول المشروع انخفض هذا الرقم إلى حوالي 62 جنيهاً للدولار، وبعد الإعلان وصل السعر إلى 51 جنيهاً للدولار الواحد، والذي ما يزال أعلى من السعر الرسمي وهو 31 جنيهاً للدولار. ولأخذ فكرة عن تطور سعر صرف الجنيه المصري خلال السنوات الأخيرة، يجدر بالذكر أنّ سعر الدولار الواحد بداية 2023 أي قبل عامٍ تقريباً، كان بحدود 36 جنيهاً؛ أي أنّ التحسن الحالي ما يزال بعيداً عن العودة إلى أرقام ما قبل عامٍ من الآن.

المحللون الاقتصاديون يقدمون توقعات مختلفة (معظمها إيجابي)، حول التأثير المحتمل للصفقة خلال الأشهر القليلة القادمة؛ إذ يعتقد بعضهم أنّ سعر صرف الجنيه المصري سيواصل التحسن وسيصل إلى 40 جنيهاً للدولار الواحد بعد بضعة أشهر، وكذلك فإنهم يتوقعون أنّ هذه الصفقة ستفتح الباب نحو صفقات أخرى أكثرها قرباً ربما ستكون مشروع «رأس جميلة» القريبة من تيران، والتي سيكون طرفها الثاني إلى جانب مصر هو السعودية، والتي يقال إنّ رأس مالها قد يصل إلى 10 مليارات دولار. ويتابع المحللون المتفائلون القول بأنّ الصفقة مع صندوق النقد الدولي حول القرض يمكن أن تكتمل قريباً، وأنّ استثمارات عديدة ستقبل على مصر التي من الممكن جداً (وفقاً لهم) أن يتحسن تصنيفها الائتماني في وقت قريب.

التأثيرات متوسطة وبعيدة المدى

ربما من المبكر التنبؤ بالنتائج الفعلية متوسطة وبعيدة المدى التي ستترتب على صفقة رأس الحكمة، خاصةً أنّ التفاصيل الكاملة للصفقة، ضمناً الاقتصادية- المالية، والسياسية إنْ وجدت، ما تزال غير معروفة، وربما لن يتم الكشف عنها بالكامل إلا بعد سنوات طويلة.

المؤكد حتى اللحظة، والذي أثبته الواقع، هو أنّ هنالك للصفقة تأثيراً إيجابياً على مديونية مصر التي انخفضت 11 ملياراً بشكل مباشر بمجرد توقيع الصفقة (هي الودائع الإماراتية في البنك المركزي المصري)، لينخفض الدين الإجمالي لمصر من 165.4 إلى 154.4 مليار دولار. وكذلك فهنالك التحسن في سعر صرف الجنيه الذي أشرنا إليه آنفاً...

الجوانب التي قد لا تدعو للتفاؤل!

رغم أنّ أجواءً احتفالية قد أحاطت بالصفقة، ويمكن القول إنها أجواء مبالغ بها، فإنّ هنالك مجموعة من العوامل ينبغي النظر إليها جدياً في إطار تقييم التأثير المتوسط والبعيد المدى لهذه الصفقة، وبينها:

أولاً: إنّ واحداً من أهم أدوات قياس نجاح أي خطة اقتصادية أو مشروع اقتصادي، هو تأثيرها على مستوى معيشة المواطن. وفي هذا السياق، ينبغي الانتباه إلى أنّ الاتجاه العام السائد للأسعار هو اتجاه ثابتٌ نحو الارتفاع (في ظل التضخم المستمر على المستويات المحلية والعالمية)، وتغير سعر الصرف إيجاباً لا يحسن من أسعار البضائع في السوق المحلية إلا في حال ثبت هذا التحسن لفترة من الزمن تقاس بالأشهر؛ ما يعني أنّ أسعار مختلف السلع تقريباً في مصر لم تنخفض رغم تحسن سعر الصرف، ولن تبدأ بالانخفاض بشكلٍ فعلي إلا في حال ثبت تحسن سعر الصرف لفترة غير قصيرة.

ثانياً: الخطر القائم المترافق بالإعلان عن الصفقة، أنها تحوّلت إلى حجةٍ مستخدمة بيد أولئك الذين يقولون إنه قد آن الأوان لتعويم الجنيه المصري للقضاء على السوق السوداء، وأنّ هذه اللحظة هي اللحظة الأنسب... المشكلة في هذا الرأي واضحة تماماً من عدة جوانب؛ فالسعر الرسمي ما يزال بعيداً بشكل كبير عن السعر الفعلي في السوق السوداء (نتحدث الآن عن فرق بحدود 67% وفي حال انخفض السعر فعلاً إلى 40 جنيه للدولار سيكون الحديث عن 33%)، ومعلومٌ أنّ أهمية السعر الرسمي في بلد مثل مصر هي أنه الأساس في تحديد سعر كم كبير من السلع المدعومة الأساسية مثل الخبز والطاقة وغيرها من الأساسيات، ما يعني أنّ تحرير سعر الصرف، وبغض النظر عن قيمته الحالية، سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع إضافي في أسعار الأساسيات، وتالياً إلى انخفاض إضافي في مستوى المعيشة.

ثالثاً: المخيف أكثر في المسألة، هو أنّ طرح «ضرورة التعويم الآن والآن فوراً» ليس إلا إجراءً واحداً ضمن حزمة الإجراءات التي يطالب بها صندوق النقد والبنك الدوليين مصر منذ سنوات، والتي تتضمن مزيداً من التقشف، عبر تخفيض كبير في الدعم الاجتماعي، وتخفيض في دور الدولة المباشر في الاقتصاد؛ وإذا تحولت هذه الصفقة إلى ستارة دخانية يتم تحتها تمرير وصفات صندوق النقد، فإنّ ملياراتها الـ35 وحتى الـ150، لن تسند الاقتصاد المصري والمواطن المصري بشكلٍ فعلي، ولكن ستتحول أرباحها وفوائدها إلى الخارج وإلى الطبقات الأكثر غنىً ضمن مصر، ولن ينوب عامة الناس سوى الآثار السيئة لتنفيذ توصيات صندوق النقد.

رابعاً: لا يمكن إغفال الأوضاع السياسية التي تجري ضمنها الصفقة، ولا نقصد فقط ما يجري في غزة، بل بالذات العمل الأمريكي الواضح على تفجير مصر من الداخل وبالاستناد إلى الوضع الاقتصادي بشكلٍ أساسي؛ ولذا فمن حق من تهمه مصر وشعبها أن يتلقى بقلقٍ وريبة ترحيبات صندوق النقد والبنك الدولي بالصفقة، وبريبة أكبر التقديرات المتفائلة لبلومبرغ وللمؤسسات المالية الغربية عموماً.

هنالك احتمالٌ آخر دائماً

الكلام السابق لا يعني بالضرورة أنّ المخاوف التي نطرحها ستتحقق؛ إذ لا نظن أنّ ما نتوقعه هنا غائبٌ عن الدولة المصرية الغنية بعقولٍ استراتيجية جبارة، ولذا يمكن دائماً التفكير باحتمالٍ إيجابي هو أنّ مصر من خلال هذه الصفقة مع الإمارات، تناور مع الغرب لمعرفتها بنواياه تُجاهَ مصر، وأنّ لديها خطتها الخاصة التي تريد السير وفقها بما يضمن تخفيف ثم تحييد الضغوط الغربية بالتوازي مع استكمال التموضع السياسي المطلوب شعبياً في مصر...

الحق أنّ كلا الاحتمالين ما يزال قائماً، وأنّ الشهور القادمة هي وحدها من ستكشف أيهما سيتحقق؛ المضي قدماً في اللبرلة باتجاه تفجير مصر من الداخل، أم الاتجاه بشكل معاكس نحو دورٍ أقوى للدولة وأكثر استقلالية وأكثر تركيزاً على الإنتاج الحقيقي الصناعي والزراعي، بما يخدم مصر والشعب المصري...

آخر تعديل على الأربعاء, 28 شباط/فبراير 2024 12:44