«كامب ديفيد» على الطاولة رغم غياب الإقرار الرسمي
تجددت مساعي إشعال المنطقة، فمنذ إعلان جيش الاحتلال عن نوايا لإجراء عملية في منطقة رفح، ارتفع مستوى التوترات على الحدود مع مصر بشكلٍ غير مسبوق، وخصوصاً بعد إعلان قوات الاحتلال عن قصف مواقع في رفح فعلاً، ومن ثم تنفيذ عملية «لتحرير رهائن» ما أسفر عن استشهاد عشرات الفلسطينيين ما دفع الظرف الراهن إلى ذروة جديدة، فماذا يجري بالضبط؟ وكيف يمكن فهمه ضمن السياق السابق؟
لحظات قبل الحدث
كان حاضراً منذ لحظات الحرب الأولى، أن الكيان يسعى بشكلٍ معلن - ورسمي في كثير من الأحيان - لتهجير السكان الفلسطينيين المقيمين في القطاع إلى سيناء في مصر، وهو ما رفضته القاهرة وعلى أعلى المستويات، فمن جهة يُنظر للمسعى الصهيوني بوصفه جريمة حرب، وتهجيراً قسرياً للسكان، لكن من جهة ثانية يبدو أن مخاوف مصر أوسع من ذلك، فالحديث يدور عن تهجير أكثر من مليون إنسان إلى الأراضي المصرية في وقت قصير، وهو ما عبّر الكثير من السياسيين والمحللين المصريين عن أنه حدث ذو تأثيرات وتبعات كبيرة، وتحديداً بالمعنى الأمني والاقتصادي، فضلاً عن كونه محاولة «إسرائيلية» جديدة لـ «تصفية القضية» على حساب الفلسطينيين ودول المنطقة.
«كامب ديفيد» تحت الضوء
جددت التطورات على الحدود المصرية فتح نقاش حول اتفاقية التطبيع بين مصر والكيان، التي وقّعت في واشنطن عام 1979 بعد مباحثات في كامب ديفيد بالقرب من واشنطن. الاتفاقية كما بات معروف ضربت دور مصر في القضية الفلسطينية وأخرجتها من الصّراع ما أدى إلى استقرار كبير بالنسبة للكيان على الحدود مع سيناء، وكانت «كامب ديفيد» بداية لتحول موقع مصر علنياً على الساحة الدولية.
إثبات أثر الاتفاقية السلبي على مصر ليس بالأمر العسير، وهو ما يحتاج بالطبع إلى بحث معمّق وشامل، ولكن سؤالاً آخر يبدو أكثر تعقيداً كان يظهر مع كل تطور سياسي هناك: هل «كامب ديفيد» ملازمة لمصر؟ هل هناك مخرج؟ والسؤال الأهم: هل هناك داخل جهاز الدولة المصري قِوَى سياسية فاعلة تدرك حجم الضرر الذي ألحقته العلاقة بواشنطن و«كامب ديفيد»؟
بذلك كانت الحرب على غزّة عاملاً أساسياً فرض وضع الاتفاقية على الطاولة، وخصوصاً أن السلوك الصهيوني في هذه الحرب كان في جوهره خرقاً لهذه الاتفاقية، وخصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار الحديث عن عملية عسكرية لجيش الاحتلال في رفح.
تضم «كامب ديفيد» الكثير من التفاصيل والملاحق التي جرى تطويرها في مناسبات مختلفة، لكنها بالمجمل تضع في أجزائها التقنية مجموعة من الضوابط حول حجم وطبيعة القوات المنتشرة على الحد الفاصل بين مصر والكيان. وعلى هذا الأساس كانت دلالات تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شديدة الخطورة، إذ قال في 31 كانون الثاني الماضي إن: «محور فيلادلفيا يجب أن يكون تحت سيطرتنا، ويجب إغلاقه». وأضاف «من الواضح أن أي ترتيب آخر لن يضمن نزع السلاح الذي نسعى إليه».
ما يعني أن جيش الاحتلال عازم على خرق الاتفاقية عبر نشر قوات بتسليح مخالف للاتفاق ما يشكّل تهديداً لمصر التي تدرك أن تواجد الاحتلال الصهيوني في هذه النقطة يعني أولاً تقدماً استراتيجياً لمصلحتهم، ويعني أيضاً الشروع في عمليات عسكرية على الحدود مع ما يمكن أن ينتج عنها في تلك المنطقة الحساسة.
موقف رسمي غائب!
المثير للانتباه أن تصريحات قادة الكيان تعتبر إقراراً بوجود خطط تتعارض مع بروتوكولات «كامب ديفيد»، وذلك رغم الأحاديث حول إمكانية تعديل موعد «عملية رفح»، بل الأكثر من ذلك أن وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش ادعى في رده على الاعتراض المصري بشأن التحركات العسكرية في رفح، أن «تسليح حماس مرّ إلى حد بعيد عبر مصر» و«المصريون يتحملون مسؤولية كبيرة عما حدث يوم 7 أكتوبر» ما يعني أن أي تبعات أمنية أو عسكرية على مصر هي ضريبة يجب أن تدفع كونها المسؤولة بنظره عما يجري.
في المقابل يبدو الموقف الرسمي في مصر غامضاً إلى حدٍ بعيد، فكانت وسائل إعلام غربية متعددة نقلت عن مسؤولين مصريين أن القاهرة تهدد بتجميد «كامب ديفيد» في حال قامت قوات الاحتلال بعمليات واسعة في رفح، وانتشرت هذه الأنباء بشكلٍ واسع داخل الكيان، ونقل أحد المصادر المجهولة هناك أن القيادة المصرية أبلغت وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن رسمياً باستعدادها لتجميد العمل في «كامب ديفيد» إذا لم تحترم «إسرائيل» المطالب المصرية. لكن كل هذه التصريحات ظّلت بلا تأكيد رسمي من القاهرة، التي اكتفت ببيان رسمي صادر عن هيئة «الاستعلامات المصرية» قالت فيه إن: «أي تحرك [إسرائيلي] باتجاه احتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا) سيؤدي إلى تهديد خطير وجدي للعلاقات المصرية - [الإسرائيلية]» وأكد بدوره رئيس الهيئة ضياء رشوان أن «اجتياح مدينة رفح الفلسطينية يعتبر خطاً أحمر»؟
أما وزير الخارجية المصري سامح شكري، وفي إجاباته على أسئلة الصحفيين حول الموضوع ذاته قال: «توجد اتفاقية سلام بين مصر و[إسرائيل]، وهي سارية على مدار الأربعين عاماً السابقة، ونحن نتعامل بثقة وفاعلية وسوف نستمر في هذا الأمر في هذه الحقبة، وأي تعليقات قد نطق بها بعض الأفراد ربما تكون قد شوهت»، وهو ما يمكن فهمه نفياً لتلك التصريحات.
في فهم ما يجري
بالرغم من أن الموقف الرسمي المصري يبدو ملتبساً إلى حد بعيد، يمكننا القول إن بعض وسائل الإعلام المصرية تؤدي دوراً في الهجوم على «كامب ديفيد» وهو مؤشر لا ينبغي التقليل من أهميته ويمكن النظر إليه بوصفه معبّراً عن رغبة داخل بعض دوائر صنع القرار في مصر، لكن استمرار تقديم هذا الموقف بشكل غير رسمي يدفع أيضاً لاستنتاج آخر، مفاده أن هذه «التهديدات غير الرسمية» تظل غير ملزمة ويمكن غض النظر عنها حتى إن استمر الكيان في خروقاته في رفح وغزّة. وما يدعم هذه الفرضية أن الكيان وبالرغم من التحذيرات المفترضة في الغرف المغلقة يصرّ حتى اللحظة على تنفيذ عمليته في رفح وبدأ فعلاً بتوجيه ضربات وعمليات عسكرية محدودة، وإن كانت آخر الأنباء تفيد أن الكيان بدأ يعطي مواعيد لاحقة للعملية لكن لا يوجد تأكيد رسمي على احتمال إلغائها.
من جهة أخرى هناك معلومات يجري تداولها حول أن الجيش المصري يحشد أعداداً من قواته في المناطق العازلة التي حددتها الاتفاقية وفرضت خفض أعداد القوات العسكرية فيها، ما يعني أن الجيش يقوم فعلًا باستجابة محددة للظرف الحالي متجاوزاً المناطق التي ثبّتتها «كامب ديفيد»، وهذا تحرّك لا يمكن تجاهله ويعتبر مؤشراً ملموساً على أن مصر تجرّد نفسها من التزامات محددة واردة في الاتفاقية وهو ما يعني تجميداً غير رسمي.
الأحداث تتطور على مدار الساعة، ولا يمكن الجزم بما ستحمله الأيام القادمة، لكن اللحظة الراهنة ضغط كبير على مصر، وتعيد فتح النقاش حول «كامب ديفيد» التي بدت مسألة ملازمة لا يمكن تجاوزها، ما نعرفه بكل تأكيد أن هناك داخل المجتمع وجهاز الدولة تيّار رافض لهذه الاتفاقية لكن وفي الوقت نفسه خلقت العلاقة بالولايات المتحدة والكيان خلال العقود الماضية بنية مرتبطة تعتاش على هذه العلاقة، وحرصت على استمرارها، ولا شك أن ما يجري داخل مصر اليوم حتى وإن لم يظهر على السطح بعد بشكلٍ واضحٍ فإنه يثبت أن الخروج من هذا الفخ أمرٌ ممكن، ولا يمكن أن تكون تكاليفه أخطر من تلك التي لحقت بمصر بعد 1979.