النيجر تطوّر تعاونها العسكري مع روسيا وتسعى للاستقرار الداخلي
زار وزير دفاع النيجر العاصمة الروسية موسكو، منتصف كانون الثاني الجاري، ضمن وفد برئاسة رئيس وزراء النيجر علي مهامان لامين زين، وضمّ وزير الدفاع صالحو مودي ووزيري النفط والتجارة، لإجراء محادثات لتعميق العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين البلدين. ومن المقرر أن يزور الزين أيضاً تركيا وإيران وصربيا. يأتي ذلك مع مواصلة حكّام النيجر الجدد إجراءات اقتصادية وديمقراطية ذات اتجاه محدَّد يشير حتى الآن لمساعيهم تعزيز شرعيتهم الشعبية الداخلية، ونسج علاقات خارجية أكثر استقلالاً عن الهيمنة الاستعمارية الغربية التي يتكالب بعضها على بعض في إفريقيا كما يلاحظ من محاولات واشنطن "وراثة" النفوذ الفرنسي.
قالت وزارة الدفاع الروسية الأربعاء الماضي (17 كانون الثاني) إنّ روسيا والنيجر اتفقتا على تطوير التعاون العسكري، حيث التقى نائبا وزير الدفاع الروسي، يونس بيك يفكوروف وألكسندر فومين، بوزير دفاع النيجر صالحو مودي. وقالت الدفاع الروسية: "أشار الطرفان إلى أهمية تطوير العلاقات الروسية النيجرية في قطاع الدفاع، واتفقا على تكثيف الإجراءات المشتركة لتحقيق استقرار الوضع في المنطقة"، مضيفةً أنهما يهدفان لمواصلة الحوار بشأن "زيادة الاستعداد القتالي" لجيش النيجر.
جاء ذلك بالتوازي مع تصريحات مهمّة في اليوم نفسه لوزير دفاع النيجر في حديث لوكالة نوفوستي حيث قال: "غادرت القوات الفرنسية النيجر، حيث غادر آخر جندي بلادنا في 22 ديسمبر. وفيما يتعلق بتأثير ذلك على الأمن في بلادنا، ينبغي القول إن انسحاب القوات هذا، من ناحية، سمح لنا برؤية صورة الكفاح الذي نخوضه بوضوح ومن ناحية أخرى دفعنا لإدراك مسؤولياتنا. يمكن القول إن انسحابهم كان له تأثير إيجابي على حربنا ضد الإرهاب".
وأفادت صحيفة "موندافريك" الفرنسية أنّ المجلس العسكري في النيجر أوضح نيّته تحرير نفسه من النفوذ الغربي، بدءاً بقطع العلاقات مع فرنسا، ويسعى إلى "تنويع شراكاته".
بالطبع ليست النيجر فقط من تتخلص من النفوذ الغربي وتتقارب مع روسيا ومع الصين، بل تأتي التطورات فيها وحولها في سياق أوسع إفريقياً. ففي أواخر العام الماضي، ظهر رؤساء الوزراء الثلاثة لكل من النيجر وبوركينا فاسو ومالي أمام حشد شعبي من آلاف المحتفلين بالانسحاب الكامل الأخير للقوات الفرنسية من النيجر. وفي اليوم التالي أكد الثلاثة أنهم ملتزمون "بمستقبل مشترك في ظل تحالف"، كما عبر رئيس الوزراء البوركيني، أبولينير يواكيم كيليم دي تامبيلا، في مؤتمر صحفي مشترك في النيجر يومذاك بالقول: "من الآن فصاعداً، نقول، سواء كنت من مالي أو النيجر أو بوركينا فاسو، لدينا المصير نفسه...الأمر متروك لنا لتقرير مصيرنا". بينما قال رئيس وزراء مالي شوغيل مايغا: "وهكذا ولد تحالف AES. إذا لاحظتم، بدأ كل شيء بقضايا السلامة، واليوم وصل التعاون بين جيوشنا الثلاثة إلى مستوى عالٍ للغاية من التكامل، وهذا يخيف البعض".
وهكذا لا يخفى تعزيز الاصطفاف والرسائل من تطوير النيجر علاقاتها العسكرية مع روسيا، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية-السياسية، وخاصّة أنّ هذا البلد الإفريقي وحلفاءه الإقليميين لا يقتصر وضعهم على التناقض مع فرنسا فقط (وهي القوة الاستعمارية التاريخية القديمة-الجديدة في إفريقيا)، بل وكذلك مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى "وراثة" النفوذ الفرنسي المتراجع، وخاصة بعد الجلاء الكامل للقوات الفرنسية من النيجر (في 22 كانون الأول 2023 تحت إصرار من حكومة النيجر الجديدة). ولا تكفّ واشنطن عن مساعيها هذه على ما يبدو، كما في موريتانيا والغابون والكونغو وإفريقيا الوسطى وغيرها... لكن حظوظها مرشحة للتناقص تحت تأثير الرجحان المتزايد والمتسارع لميزان القوى الدولي الجديد ضد مصالح الغرب الاستعمارية النهّابة برمّتها، وباتجاه الكفّة الشرقية بقيادة روسيا والصين اللتين تواصلان العمل على صياغة علاقات دولية جديدة من طراز مختلف وأكثر عدالة بين شعوب العالَم.
مؤشرات داخلية اقتصادية وديمقراطية
في هذا السياق يمكن أن نلاحظ حتى الآن انسجاماً في عمل مجلس النيجر العسكري في سياساته الخارجية والداخلية. على سبيل المثال، من الخطوات الاقتصادية المهمّة التي أقدمت عليها مؤخراً قيادة النيجر الجديدة، تأميم قطاع المياه الصالحة للشرب في السابع من كانون الثاني الجاري. حيث أنهت حكومة النيجر عقدها مع شركة فيوليا الفرنسية وشركتها التابعة المسماة "شركة استغلال مياه النيجر" SEEN، وذلك بعد اعتماد مجلس وزراء النيجر مشروع مرسوم بالنظام الأساسي للشركة، وتأسيس شركة حكومية جديدة باسم "المياه النيجيرية". وانتهى عقد الإيجار في آخر يوم من عام 2023 المنصرم. وهكذا وبعد ما يزيد قليلاً عن 22 سنة من السيطرة الفرنسية على مياه النيجر، ستتولى شركة Nigerien des Eaux المسؤولية بدلاً من SEEN لضمان تشغيل وإنتاج وتوزيع مياه الشرب في البلاد.
مجلس النيجر العسكري الذي جاء إلى السلطة بانقلاب في تموز الماضي وعزل الرئيس السابق محمد بازوم الموالي لفرنسا، يسعى إلى اتخاذ خطوات بالمعنى الديمقراطي الداخلي، يمكن قراءتها كمساعٍ لتعزيز شرعيّته الشعبية واستعادة الاستقرار الوطني الداخلي من جهة، وطمأنة حلفائه وأصدقائه الإقليميين والدوليين من جهة ثانية، ونزع جزء من ذرائع هجوم الغربيين عليه من جهة ثالثة، ولا سيّما أنّ هؤلاء الأخيرين يتشدّقون دوماً بـ"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان".
وبات هذا التوجه واضحاً بشكل خاص اعتباراً من منتصف كانون الأول الماضي، عندما اتفق القادة العسكريون في النيجر على خطةٍ لاستعادة الحكم الديمقراطي يتم تقديمها إلى المجموعة الإقليمية لدول غرب أفريقيا للموافقة عليها، بحسب ما أعلن روبرت دوسي رئيس وزراء توغو الذي زار النيجر للتفاوض مع المجلس العسكري نيابة عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس).
وقال دوسي: "عقدنا جلسة عمل مثمرة مع رئيس الوزراء ووزير خارجية النيجر. لقد عملنا واتفقنا على محتوى وتوقيت المرحلة الانتقالية". وأضاف "سوف نعرض ذلك على رؤساء الدول الذين يقومون بالوساطة ومفوضية الإيكواس على أمل أن يتم تحديد الجدول الزمني الذي تتوقعه الإيكواس في كانون الثاني". ولم تلبث الأمم المتحدة أن أعلنت في 19 كانون الأول 2023 أن المجلس العسكري الذي تولّى السلطة في النيجر "هو الآن الحكومة الشرعية الحقيقية للنيجر" وأنه "الممثل الوحيد لسلطات النيجر لدى هيئات الأمم المتحدة كافة".
جولة بلينكن وتفاقم المأزق الإمبريالي بإفريقيا
لعل من المؤشرات الجديدة على تكالب واشنطن لمحاولة الإمساك بـ"البساط" الإفريقي الذي يتسارع سحبه شرقاً من تحتها، ومن تحت القوى الغربية الإمبريالية عموماً، هو الجولة الإفريقية الحالية لوزير خارجيتها أنطوني بلينكن، التي انطلقت الأحد، 22 كانون الثاني، ويفترض أن تستمر حتى الـ 26 منه. حيث أعلن مساعد بلينكن للشؤون الأفريقية بصريح العبارة بأنّ "الولايات المتحدة تأمل أن يختار المجلس العسكري في النيجر واشنطن بدلاً من الشراكة مع روسيا"، مما يؤكّد مدى قلق واشنطن وشعورها بالخُسران والتحدّي في آن معاً.
وتشمل جولة بلينكن 4 بلدان إفريقية هي "الرأس الأخضر"، وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا. ومنذ الإعلان المسبق عن جولة بلينكن هذه في الـ 19 من الشهر الجاري، ربطها كبير الدبلوماسيين المختصّين بشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية بـ"التحدّيات الأمنية في غرب أفريقيا في أعقاب الانقلاب في النيجر العام الماضي" حيث سيكون هذا الملف من بين الموضوعات التي سيناقشها وزير الخارجية الأمريكي بلينكن مع الزعماء الأفارقة الذين سيلتقي بهم، إضافة لمناقشة "الشراكات الأمريكية الإفريقية بشأن التجارة والمناخ والبنية التحتية والصحة وقضايا أخرى".
وفي زيارته لـ"جمهورية الرأس الأخضر"، أشاد بها بلينكن على أنها "حقاً منارةٌ للاستقرار بالمنطقة، في وقت نحصل فيه على مزيدٍ من نصيبنا من عدم الاستقرار والتحدي". وأضاف نقلاً عن الرئيس بايدن: "إننا جميعاً متضامنون عندما يتعلق الأمر بإفريقيا... مستقبلنا مترابط وازدهارنا مترابط، والأصوات الإفريقية تعمل بشكل متزايد على تشكيل وتحفيز وقيادة الحوار العالمي" بحسب تعبيره.
ويجدر بالذكر بأنّ هذه "الجمهورية" المُجهريّة الأرخبيليّة التي اختار بلينكن بدء جولته الإفريقية منها، واسمها بالبرتغالية "كابو فيردي"، قد تأسست عام 1975 من 10 جزر على بعد 570 كيلومتراً من سواحل السنغال ومساحتها زهاء 4 آلاف كيلومتر مربّع وسكانها قرابة 500 ألف نسمة، وللاستعمار فيها تاريخ مشين حيث اتخذها مركزاً لتجارة العبيد عبر الأطلسي التي بُنِيَتْ الولاياتُ المتحدة تاريخياً على دمائهم واستغلالهم. فالإمبريالية الأمريكية حتى في اختيارها أشكال حراكها "الدبلوماسي" لا تستطيع إلا أنْ تكون منسجمة مع مضمونها وجوهرها.