توني بلير وإعادة التوطين
عاد اسم رئيس الوزراء البريطانيّ توني بلير ليطلّ على منطقة الشرق الأوسط مجدداً عبر نافذة العدوان الصهيونيّ الغاشم على قطاع غزة، من خلال دور مرتقب نسبته له تقارير إعلاميّة صهيونية، يلعب خلاله دور الوسيط في عملية تهجير الغزّيين أو ما بات يعرف بـ "إعادة التوطين الطوعي" لسكان غزة في اليوم التالي لانتهاء العدوان.
بدأ هذا التداول خلال تقرير، نُشر في 12 تشرين الثاني، جاء فيه أنّ الكيان الصهيونيّ يسعى لتعيين رئيس الوزراء البريطانيّ السابق، منسّقاً للشؤون الإنسانيّة في غزة، وسط استمرار الحرب التي تشنُّها "إسرائيل" على القطاع، ونقل التقرير، الذي نشره الموقع التابع لصحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونيّة، عن مسؤولين كبار لم يذكر أسماءهم، أنّ رئيس الوزراء الصهيونيّ بنيامين نتنياهو "يأمل في الاستفادة من تجربة بلير بوصفه مبعوثاً سابقاً للجنة الرباعيّة الدوليّة للشرق الأوسط، لتخفيف المخاوف الدوليّة بشأن الأضرار التي تلحق المدنيين، في الوقت الذي تُواصل فيه تل أبيب حربها على قطاع غزة"، وأشار التقرير إلى أنّه جرى الاتصال ببلير بشأن هذه المسألة، وما زالت المحادثات "جارية"، في المقابل، قال مكتب بلير في بيان للصحيفة، إنّ "السيد بلير لديه مكتب في إسرائيل، ويواصل العمل في المسائل المرتبطة بها والفلسطينيين. ومن المفهوم أنّه أجرى محادثات مع أشخاص في المنطقة، وأماكن أخرى لمعرفة ما يمكن القيام به، ولكنه لم يمنح أو يعرض عليه المنصب"، لكنّ المكتب لم ينفِ بشكل مباشر تلقّيه أي اتصال في هذا الشأن آنذاك.
لتنشر "القناة 12" الصهيونية في الأسبوع الأخير من العام الماضي، أنّ بلير سيترأس طاقماً يعمل على إقناع دول أوروبيّة باستقبال لاجئين من قطاع غزة، مشيرةً إلى أنّه وصل إلى تل أبيب سراً الأسبوع الماضي، والتقى بكل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والوزير في مجلس الحرب بيني غانتس في اجتماعات لم يتم الكشف عنها بشكلٍ رسميّ، وبحسب القناة، فإن الهدف من هذه الزيارة هو أن يلعب دور الوساطة بين الرغبات الصهيونيّة وبين بعض الدول العربية "المعتدلة" في اليوم التالي لانتهاء الحرب على القطاع، ودراسة إمكانيّة قبول اللاجئين من غزّة في دول العالم، وقالت إنّ بلير "يتعامل فعليًا مع اليوم التالي، من دون أن تقرر الحكومة أو ترسم الخطوط السياسيّة حول الموضوع، وذلك على خلفية أن نتنياهو منع مناقشة المسألة داخل مجلس الحرب، لكن سيجري نقاشه داخل المجلس السياسيّ والأمنيّ وبشكلٍ جزئيّ وليس بكل التفاصيل"، ليدلي المعهد التابع له ببيان، أنّ تقرير القناة الصهيونيّة "نشر من دون أي تواصل مع توني بلير أو فريقه ولم يجر حديث من هذا القبيل، ولا توني بلير أجرى مثل هذا الحديث. الفكرة خطأ من حيث المبدأ. يجب أن يكون سكان غزة قادرين على البقاء والعيش في غزة"، إلا أنّه ورغم نفيه الرسميّ لتلك التقارير التي أذاعتها للمرة الأولى تقارير صهيونيّة، فإن كثيرين لم يستبعدوها في ضوء التقارب والعلاقة القويّة التي تجمعه برئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
زيارة بلير السريّة ترافقت مع ضغط أحزاب الائتلاف اليمينيّة المتطرّفة في الكيان الصهيونيّ من أجل إعادة توطين أجزاء من القطاع، وتهجير سكان غزّة للخارج، وحث الدول الغربيّة وحتى العربيّة على استقبالهم، واستبعاد أيّ خطة لما بعد الحرب تتضمن دوراً حاكمًا للسلطة الفلسطينيّة في غزّة بشكلٍ قاطع، حيث قال سموتريتش، زعيم حزب "الصهيونية الدينية" المتطرف، في حديث للقناة 12 الصهيونية: "إنّ إسرائيل لا يمكن أن تسمح ببقاء غزّة تحت سيطرة مليوني شخص يريدون تدمير دولة إسرائيل"، وتابع: "نريد تشجيع هجرتهم، ونحتاج إلى العثور على دول مستعدة لاستقبالهم"، وهو السيناريو الذي لاقى رفضاً قوياً ومعارضةً واسعةً سواءً من المقاومة الفلسطينية وحتى الدول العربية، كما وضع حكومة الكيان على خلاف مع المطالب من الولايات المتحدة وحلفاء دوليين آخرين والذين عبّروا عن معارضتهم للدفع بهذا الاتجاه، في حين انتقدت السلطة الفلسطينيّة هذه التقارير معبّرة عن "رفضها الشديد" لتكليف بلير أو غيره "بالعمل من أجل تهجير المواطنين من قطاع غزة"، وقالت في بيان نشرته وكالة الأنباء الفلسطينيّة "وفا" إنها ستطالب الحكومة البريطانية "بعدم السماح بهذا العبث في مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله"، معلنةً أنّ بلير "شخصٌ غير مرغوب فيه في الأراضي الفلسطينية".
ورغم نفيه ومعهده "معهد توني بلير للتغيير العالمي" الذي أسّسه في عام 2016، لهذه التقارير، فإنّ الجدل الذي صاحبها، لم يستند في جوهره فقط إلى تاريخ انخراط الرجل في قضايا وصراعات المنطقة ودوره في تعميقها لا حلها، ولا سيّما بعد دور بلاده في غزو العراق 2003 تحت ذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، التي ثبت كذبها لاحقاً، فضلاً عن دور الرجل كمبعوث للرباعيّة الدوليّة المعنيّة بالسلام في المنطقة في الفترة ما بين 2007 و2015، وأخيراً سجله المالي "المشبوه"، بل تعدى ذلك إلى التخبّط الغربيّ الذي يرافق عملية الخروج من الأزمة العميقة في غزة وإخراج نفسه والكيان من هذه الأزمة، عبر رفع سقف المواجهة حتى لو وصل بهم الأمر إلى رفع هذا السقف إعلاميًا فقط، إلا أن المخارج تضيق بهم تحت وقع ضربات المقاومة، وفي ظل تكوّن جو دولي وشعبي يعمق ليس عزلة الكيان وحده فحسب، بل ومعه عزلة الأمريكي.