«إسرائيل» والجبهات الأمريكية الثلاث.. ونبوءة تشي غيفارا
«يجدر ألا نقلل من شأن خصمنا. يتمتع الجندي الأمريكي اليوم بقدرةٍ تقنية عالية ومدعوم بأسلحة وموارد من الحجم الذي يجعله هائلاً. غير أنه يفتقر إلى الدافع الأيديولوجي الجذري الذي يمتلكه ألد أعدائه اليوم - الجنود الفيتناميون - بأعلى درجة. إننا لن نتمكن من الانتصار على مثل هذا الجيش إلا من خلال تقويض معنوياته، ويتم تحقيق ذلك من خلال التسبب في هزائم متكررة وعقاب متواصل.. يا له من مستقبلٍ قريب مضيء سيكون بانتظارنا إذا ازدهرت فيتنامتان أو ثلاث أو العديد من الفيتنامات في جميع أنحاء العالم، بتضحياتهم ومآسيهم الهائلة وبطولاتهم اليومية وضرباتهم المتكررة ضد الإمبريالية سيجبرونها على تشتيت قواتها تحت وطأة الهجوم، بفعل الكراهية الأمريكية المتزايدة لجميع شعوب الأرض...».
يعتبر هذا الاقتباس من رسالة المناضل والثوري الأممي، إرنستو تشي غيفارا، إلى الأمانة التنفيذية لمنظمة التضامن مع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية في 16 نيسان 1967، واحداً من التنبؤات المبكرة التي توصل إليها غيفارا حول إمكانية نجاح التكتيكات الهادفة إلى تقويض هيمنة الإمبريالية الأمريكية، داعياً إلى فتح عدة جبهات من طراز المعركة في فيتنام لتشتيت القوة الأمريكية. وهو الأمر الذي نشهده واقعاً ملموساً اليوم، حيث يتزايد عدد الجبهات المفتوحة في وجه الهيمنة الأمريكية، والتي تشترك فيما بينها بأن نتيجتها تظهر تراجعاً ملموساً وحاسماً للقوة الأمريكية. ويمكننا تسليط الضوء على ثلاث جبهات أساسية حاضرة على مثل هذه الهزيمة.
هزيمة عن سابق إصرار
مع اقتراب عمر العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا من العامين، وبعد فشل «هجوم الربيع» الذي هدّدت به القوات الغربية والأوكرانية، ومع تثبيت زمام المبادرة بشكلٍ جليّ لمصلحة القوات الروسية، باتت تعترف العواصم الغربية الآن بأنها تصل فعلياً إلى نهاية حدود الدعم الذي تستطيع أن تقدمه لكييف.
خلال الهجوم الأوكراني، اعترفت وسائل الإعلام الغربية بأن القوات الأوكرانية تعرضت لخسائر كارثية من حيث القوة البشرية والمواد؛ انهار الاقتصاد الأوكراني بشكلٍ كامل تقريباً، وتحول إلى مجرد «هبات» من الولايات المتحدة وأوروبا وصندوق النقد الدولي. وأُلحقت أضرارٌ جسيمة في البنية التحتية العسكرية الأوكرانية.
ومنذ عام 2014، تم تجريد أوكرانيا غربياً من أية ملامح سيادية، ما أسفر عن تنصيب نظام عميل تم تركيبه بواسطة الولايات المتحدة، يخضع لواشنطن على حساب مصلحة أوكرانيا ذاتها.
بهذا المعنى، عانت أوكرانيا بوصفها وكيلاً للولايات المتحدة من خسائر فادحة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً. وفي السياق الأوسع، تعاني أوروبا أيضاً من استلابٍ سياسي، حيث بات يقودها مكتب الاتحاد الأوروبي الذي يخدم، حاله حال حكومة أوكرانيا، مصالح واشنطن على حساب المصالح الأوروبية.
وكانت الولايات المتحدة قد خططت منذ فترة طويلة لاستخدام أوكرانيا كوكيل لتوسيع نفوذها ضد روسيا: في ورقة سياسية نشرتها الحكومة الأمريكية ومؤسسة «راند» المموّلة من مجمّع الصناعات العسكرية الأمريكية في عام 2019، بعنوان «توسيع روسيا: المنافسة من أرض مواتية»، قدّمت المؤسسة توصيات بتقديم مساعدة قتالية لأوكرانيا «لجذب روسيا إلى الصراع المستمر بين كييف والمتمردين في شرق أوكرانيا». الفكرة كانت تقتضي أن تتم زيادة التكاليف على روسيا، سواء من ناحية الخسائر البشرية أو التكاليف الاقتصادية.
وأشارت الورقة أيضاً إلى أن هذه الاستراتيجية تشكل مخاطر عالية على أوكرانيا. فهذه الخطوة قد تؤدي إلى «...أضرار كبيرة بالغة بالنسبة لأوكرانيا وبالنسبة لصورة الولايات المتحدة ومصداقيتها. وقد ينتج عن ذلك خسائر أوكرانية مفرطة بالنسبة للقوات وفقدان الأراضي وتدفقات اللاجئين بشكل غير متناسب».
لكن رغم هذه المخاطر المعترف بها، دفعت الولايات المتحدة بهذه الخطة. واليوم نرى أن المخاوف التي أعرب عنها صانعو السياسة الأمريكيين الذين اقترحوا هذه الاستراتيجية قد تحققت بالكامل، مع فارق بسيط، أن خطة استنزاف روسيا قد فشلت، وتتكبد الولايات المتحدة هزيمة كاملة المواصفات.
تايوان: اليد الصينية هي اليد العليا
بينما يتم تدمير أوكرانيا بواسطة حرب وكالة مدبرة أمريكياً، وبينما تقاتل الولايات المتحدة «حتى آخر أوكراني»، يتم استخدام ترتيب مماثل لجزيرة تايوان الصينية، كوكيل مسلّح بقوة من الولايات المتحدة ضد الصين.
وتماماً كما كان الحال في حالة أوكرانيا، يعترف صانعو السياسة الأمريكيين بالتهديد القائم على وجود تايوان كوكيل للولايات المتحدة.
نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، الذي يتم تمويله أيضاً من قبل الحكومة الأمريكية ومصنعي الأسلحة، ورقة بحثية بعنوان «المعركة الأولى في الحرب القادمة: محاكاة غزو صيني لتايوان» في عام 2023. يعترف فيها المركز بأن أي صراع بين إدارة تايوان المدعومة من الولايات المتحدة وباقي الصين سيتسبب في أضرار كبيرة على الجزيرة.
تشير الورقة إلى أن أي بنية تحتية لا يقوم بتدميرها الجيش الصيني خلال القتال، فإن الولايات المتحدة ستستهدفها وتدمرها بنفسها: «الموانئ والمطارات تمكن من استخدام سفن وطائرات متنوعة أكثر لتسريع نقل القوات إلى الشاطئ. قد تهاجم الولايات المتحدة هذه المرافق لمنع استخدامها بعد الاستيلاء الصيني على الجزيرة»، ما سيؤدي إلى خسائر عسكرية أمريكية مؤكدة.
بمعنى آخر، تخسر الولايات المتحدة بشكل كبير من حيث اضطرارها للإبقاء على بعض قواتها العسكرية بالقرب من تايوان بين الحين والآخر، بينما ينجح الجانب الصيني حتى الآن باحتواء المشكلة المدبرة أمريكياً في تايوان بالوسائل السياسية والعسكرية، والأهم من ذلك بالوسائل الاقتصادية.
هزيمة «إسرائيل»: ثالثة الأثافي
تزخر ورقات البحث الأمريكية باستراتيجيات تستخدم «إسرائيل» كوكيل عسكري مستعد لمهاجمة الدول في منطقة الشرق الأوسط بلا حساب، مما يعفي واشنطن من العبء السياسي والعسكري والاقتصادي والدبلوماسي الذي يترتب على تنفيذ مثل هذه العمليات العسكرية بنفسها.
على عكس أوكرانيا أو تايوان، يُعتقد أن «إسرائيل» تمتلك بين العشرات والمئات من الأسلحة النووية. بالتالي، لن تواجه إسرائيل نفس نوع الهزيمة التي تواجهها أوكرانيا، ولكن هذا الاعتقاد يصطدم اليوم بواقع القتال العسكري الجاري في فلسطين، والذي بدأ يترك الكيان مستنزفاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
الأهم من ذلك أن الكيان بات ينظر ويرى كيف تفقد الولايات المتحدة دور الوساطة في حل القضية الفلسطينية، ويذهب الملف بالتدريج إلى يد الخصوم من القوى الصاعدة، روسيا والصين تحديداً، ما يمهد الطريق لحل القضية حلاً عادلاً يضمن حقوق الشعب الفلسطيني، ويرغم الكيان على التعامل مع موازين العالم الجديدة.