ماذا تريد موسكو من بيونغ يانغ؟
أنهى رئيس كوريا الديمقراطية زيارة رسمية إلى روسيا، ونظراً لتاريخ التعاون الطويل والوثيق بين البلدبن كان لا بد أن تثير هذه الزيارة تحفظات كبرى لدى واشنطن وحلفائها في آسيا تحديداً، فآفاق ومجالات التعاون بين موسكو وبيونغ يانغ متسعة وقادرة على تعزيز قدرات البلدين وتدعيم مواقعهما في ظل الصراع الدائر حالياً على المستوى العالمي.
رحلة الرئيس كيم جونغ أون لم تكن عادية على جميع المقاييس، إذ قضى كيم جونغ أون ستةأيام داخل روسيا، زار فيها عدداً من المنشآت الحيوية والتقى الرئيس فلاديمير بوتين في مقاطعة آمور في الشرق الأقصى لروسيا، الزيارة التي اختار جونغ أون قطار كوريا الديمقراطية الشهير للقيام بها، وجّهت العديد من الرسائل، برغم عدم الإعلان عن أي اتفاقات رسمية وعدم صدور بيان عن قمة الرئيسين.
«قطار الشرق السريع»
ربما يكون اختيار القطار المدرَّع الذي اعتمد عليه الرئيس الكوري الديمقراطي السابق، كيم جونغ إيل، للقيام بهذه الرحلة يرسل الإشارة الأولى حول الترابط الجغرافي بين البلدين، ويذكّر بجملة من المناسبات حول العلاقات المتينة بين كوريا الديمقراطية والاتحاد السوفييتي و الجمهوريات الاشتراكية السابقة، ورغم أن القطار لا يستطيع بسبب وزن تحصيناته أن يقطع أكثر من 88 كم في الساعة، إلا أن الرئيس الذي لم يقم بأي زيارات خارجية منذ 2019 اختاره لهذه الرحلة بالتحديد، التي وصفها بأنها تفتح صفحة جديدة بين بلاده وروسيا، ورأى فيها ذروة جديدة لعلاقاتهما الثنائية. وكان هذا سبباً كافياً بالنسبة لواشنطن لتعلن جملة من المواقف الرسمية، إذ وصف البيت الأبيض المفاوضات بأنها «مفاوضات أسلحة» وأيّد الناطق الرسمي باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، هذه التقديرات، ودعى كوريا لوضع حد لهذه المحادثات، التي تهدف بحسب التقديرات الأمريكية إلى «تأمين أسلحة وذخائر للجيش الروسي» الذي يخوض قتالاً شرساً على الجبهة الأوكرانية. لكن وبعيداً عن محاولة إثبات أو نفي التقديرات الأمريكية والغربية، يبدو أن ما يقلق واشنطن أكبر بكثير من إمدادات ذخيرة مفترضة!
ماذا تستطيع كوريا فعله؟
تفرد معظم التقارير المتداولة حول آفاق التعاون بين كوريا الديمقراطية وروسيا مساحة واسعة للحديث عن حاجة الأخيرة إلى قذائف وذخائر أخرى نظراً للطلب الكبير داخل الجيش الروسي على أسلحة تقليدية لعبت دوراً كبيراً في الحرب الأوكرانية، لكن بعض الإشارات والتصريحات نبّهت إلى أن لدى روسيا الكثير لتقدمه لبيونغ يانغ نظراً لكون الأخيرة قادرة على لعب دور مهم في المحيط الهادئ. ففي خلال الرحلة زار جونغ أون عدداً من مراكز الصناعات العسكرية، مثل قاعدة كنيفيتشي الجوية، حيث تفقّد صواريخ «كينجال» فرط الصوتية وقاذفات استراتيجية قادرة على حمل رؤوس نووية وطائرات مقاتلة متعددة المهام وطائرات حربية ومدنية، وزار الرئيس الكوري الديمقراطي قاعدة للأسطول الروسي وتعرّف على فرقاطة «المارشال شابوشنيكوف» التابعة لأسطول المحيط الهادئ الروسي، وقام بجولة استطلاعية على مختلف الأسلحة والأنظمة التي تحتوي عليها الفرقاطة. هذا بالإضافة إلى أن الجانب الروسي سلّم وفد كوريا الديمقراطية مجموعة من الهدايا القيّمة شملت 5 مسيرات انتحارية، ومسيرة استطلاع غيرانيوم- 25 عامودية، التي ستكون هدية ثمينة لمهندسي كوريا الديمقراطية ذوي الخبرة الكبيرة في مجالات تطوير الأسلحة محلياً.
كل ما سبق كان كفيلاً بوضع الزيارة ضمن سياق مختلف عمّا جرى ترويجه، ما دفع مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك ساليفان لبحث مجرياتها مع نظيريه الكوري الجنوبي والياباني، فكانت موسكو ملتزمة بعقوبات الأمم المتحدة التي فرضت ضوابط على عقود التسليح مع كوريا الديمقراطية لكن الإشارات القادمة من موسكو تدل أن الأخيرة ربما تسعى لتخفيف هذه القيود الدولية في المدّة القادمة، في إعلان واضح عن إمكانات كبرى للتعاون الاستراتيجي بين موسكو بيونغ يانغ تكون الأخيرة ضمنه، كما كانت تاريخياً، ذراعاً متقدمة في منطقة المحيط الهادئ، ويمكن لتنسيق ثلاثي بين روسيا والصين وكوريا الديمقراطية أن يتحول إلى سلاح ضارب في وجه المخططات الأمريكية التي يجري تحضيرها في غرب آسيا وتحديداً بوادر تشكيل تحالفات عسكرية تضم كوريا الجنوبية واليابان التي يجري تحضيرها أمريكياً لكسر القيود التي فرضت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، ما يفتح لها المجال لبناء جيش هجومي.
مجمل اللقاءات والزيارات في جدول أعمال كيم جونغ أون ستكون كابوساً حقيقياً بالنسبة لواشنطن، فوصول بيونغ يانغ إلى أسلحة متطورة أو التكنولوجيا العسكرية الروسية قادر على قلب الميزان في منطقة الهادئ وتغيير قواعد اللعبة، ما يجعلها خطوة هجومية بامتياز موجّهة ضد عدو مرتبك يتلقى الضربات في نِقَاط متعددة من العالم. ومع تصريحات رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في كلمته بالأمم المتحدة يوم الأربعاء 20 أيلول الجاري، التي أعلن فيها رغبته في تطبيع العلاقات مع كوريا الديمقراطية، واستعداده لمفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة، يمكننا القول إن حلفاء واشنطن في المنطقة يدركون حساسية الموقف ويحضرون لمناورة واسعة أملاً في احتواء الموقف قبل أن تتغيّر المعادلة بشكل نهائي.