لماذا يتحدث البابا فرانسيس عن «روسيا العظيمة»؟
تسبب خطاب البابا فرانسيس، الذي ألقاه أمام اجتماعٍ مع بعض الشباب الروس الكاثوليك، في إحداث ضجة داخل أوكرانيا. وذلك بسبب دعوته الروس إلى عدم التخلي عن التراث الثقافي للإمبراطورية الروسية «العظيمة والمستنيرة»، ليتعرض بعدها لانتقادات من مكتب الرئيس الأوكراني ووزارة خارجيته، سرعان ما رد عليها البابا فرانسيس بطريقةٍ لم تشفي صدور بعض المحللين الغربيين الذين يشتكون من «تغيير» في سلوك الكنيسة الكاثوليكية.
السبب المباشر لغضب كييف هو كلام البابا، الذي حثّ فيه الجمهور على عدم نسيان إرث «روسيا العظيمة من القديسين والحكام، روسيا العظيمة زمن بيتر الأول، وكاترين الثانية، تلك الإمبراطورية ذات الثقافة العظيمة والإنسانية العظيمة»، ثم شكرهم على «القدرة على أن يكونوا روسيين في الصميم».
إثر ذلك وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأوكرانية، أوليغ نيكولينكو، خطاب البابا فرانسيس بأنه «دعاية إمبريالية تبرر تصرفات روسيا في أوكرانيا»، وكذلك ميخائيل بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني، وصف البابا فرانسيس بأنه «أداة للدعاية الروسية».
وسريعاً أدلى المكتب الصحفي للكرسي الرسولي ببيانٍ ردّي، مؤكداً أن «التمثيل البابوي يرفض بشدة التفسيرات المذكورة، لأن البابا فرانسيس لم يشجع أبداً الأفكار الإمبريالية. على العكس من ذلك، فهو معارض ومنتقد قوي لأي شكل من أشكال الإمبريالية أو الاستعمار في جميع الشعوب والحالات. ووفقاً لهذا المنهج، يجب تفسير كلمات البابا، التي نطق بها في 25 آب».
ليست أولى التصريحات التي تثير الجدل
أدلى البابا فرانسيس مراراً وتكراراً بتصريحات لفتت الانتباه مؤخراً. على سبيل المثال، في أيار من هذا العام أعرب عن اعتقاده بأن بدء عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا «ربما كان سببه هو نباح الناتو على أبواب روسيا»، مما أدى إلى غضب ممثلي حلف الناتو. ولهذا السبب، اجتذب البيان الذي تم الإدلاء به في الاجتماع مع الكاثوليك الروس اهتماماً خاصاً في جميع أنحاء العالم.
الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي كانت تتعامل - على الأقل منذ 1000 عام - على أنها كيان فوق وطني بحكم الأمر الواقع، وتنفذ سياستها في القارات الخمس وفي ظروف تاريخية مختلفة تماماً عن الظروف اليوم، لديها بالطبع مصلحتها الخاصة في الأزمة الأوكرانية. وفي الوقت ذاته، تحاول اليوم أن تتكيّف مع التغيرات الجيوسياسية التاريخية.
لماذا التقارب مع موسكو؟
لتفسير التبدل في موقف الكنيسة الكاثوليكية، ترى الباحثة في معهد الدراسات الدولية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، يكاترينا شيبالينا، أن الكنيسة الكاثوليكية حافظت على صلابتها رغم حملات الضجيج التي جرت في أوقات مختلفة (مثل دفع موضوع المثلية، ومناهضة الإسلام.. إلخ)، وذلك رغم المحاولات المحمومة لبعض رجال الدين الكاثوليك (ولا سيما في ألمانيا) للزج بالكنيسة في حملة الترويج لهذه القيم. هنا، تقرّب الرغبة المشتركة في مقاومة هذه القيم المسافة بين الفاتكيان وموسكو وتردم الهوة بين الجانبين بالتدريج.
وحاله حال أي دولة أو كيان آخر، لم يكن الفاتيكان أبداً بنية سياسية متجانسة على طول الطريق. بل كان يعتمد السلوك في كثير من الحالات على شخصية البابا والظروف التاريخية والموازين الدولية.
ومنذ انتخابه في عام 2013، يحاول البابا فرانسيس «إعادة الاعتبار» للكنيسة بهدوء بعد سلسلة من الفضائح البارزة التي أسقطت سمعتها. ووصل الأمر إلى حد إعلان رفض العولمة، حيث أدلى البابا ببيانٍ يتعارض مع قيم الملياردير جورج سوروس وأتباعه. وقال خلال زيارة لرومانيا: «لقد ساهمت العولمة في القضاء على قيم الشعوب، وإضعاف الأخلاق والتعايش اللذين تلوّثا في السنوات الأخيرة بشعور غامر بالخوف الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى التنافر والكراهية».
رغم ذلك، فإن هذه القناعة لم تمنع البابا فرانسيس من عقد اجتماع غير رسمي مع الرئيس الجديد لمنظمة المجتمع المفتوح، ألكسندر سوروس، والرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون، ونائب وزير الخارجية في إدارته، ستروب تالبوت في 6 تموز الماضي في المقر الخاص للبابا في سانتا مارتا. وهو اجتماع سري لم يخرج منه أي كلمة للعلن.
تغيّر في التركيبة يؤسس لتغير في طريقة التعاطي
ثمة عامل آخر يجري الحديث عنه، وهو أن الكرسي الرسولي لا يزال يفقد نفوذه بسرعة في أوروبا. حيث تظهر إحصاءات الأبحاث اتجاهاً واضحاً نحو اجتثاث المسيحية من القارة. ولوحظ الاتجاه ذاته في الولايات المتحدة الأمريكية. بينما من ناحية أخرى، يتزايد عدد المسيحيين في آسيا وأفريقيا، مما يضمن نموهم على نطاق العالم.
وموقف البابا فرانسيس من هذا معروف أيضاً. ففي خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوروبي قبل ثماني سنوات، شبه البابا أوروبا بـ«امرأة عاقر تفقد روحها ينظر إليها بقية العالم بعدم ثقة وعزلة». وهكذا، قبل فترة طويلة من الأزمة الأوكرانية، كان الفاتيكان يقول إن أوروبا قد كبرت وغرقت في مشكلاتها الخاصة.
منذ بداية «ولايته»، حدّد البابا الحالي الطبيعة العالمية العابرة للحدود لعمل الكرسي الرسولي. حيث لم تعد أوروبا بالفعل منطقة مسيحية رئيسية، وتتفوق عليها دول أخرى من حيث عدد الكاثوليك (أربع دول أوروبية فقط في البلدان العشرة الأولى من حيث عدد الكاثوليك في العالم، وهي غير ممثلة حتى في المراكز الخمسة الأولى).
البابا فرانسيس ونهاية اللعبة الأوكرانية
يقوم الفاتيكان بدورٍ نشط في محاولات حل الأزمة الأوكرانية وهو واحد من القلائل في الغرب الذين يتحدثون لصالح الإنهاء الفوري للمرحلة العسكرية من الأزمة. وفي أيار، زار وفد بقيادة زيلينسكي روما ولم تتكلل هذه الزيارة بالنجاح. في الوقت نفسه، عقدت المفاوضات في موسكو وكييف وواشنطن من قبل الكاردينال ماتيو زوبي المقرب من البابا فرانسيس. وفي 21 آب، قام الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، بزيارة رسمية إلى روما.
وفي العاصمة الروسية، تحظى الجهود الدبلوماسية للكرسي الرسولي بتقديرٍ كبير. ووفقاً للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، فإن العلاقات بين روسيا والفاتيكان تتميز بـ«نهجٍ بناء واحترام متبادل».
ويدعو الكرسي الرسولي إلى الحوار مع روسيا بشكلٍ دائم، ويعرب عن أنه يتفهم الحاجة إلى الإجماع ولا يقبل أيديولوجية «الهزيمة الاستراتيجية لموسكو»، ويشير بعض المحللين ممن يعتبرون مقربين من البابا فرانسيس إلى أن هناك فهماً عميقاً لدى البابا فرانسيس لعدالة مطالب روسيا لضمان الأمن واتخاذ آليات واضحة لضمان ذلك بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية.
وبدوره يبدو أن البابا اتخذ موقفاً مفاده أنه بعد تعرض الفاتيكان لفقدان الأراضي، وعدم وجود جيش، وعملة وغيرها من المشكلات، سيعزز نفسه في الساحة الدولية من خلال لعب دور الوسيط العالمي. وقد فتحت الأزمة الأوكرانية أمام الكرسي الرسولي فرصة لإثبات فعاليته.