عالمان ومنطقان: دعاة الحرب مقابل أنصار السلام
بوصفها قوة دولية آخذة في التراجع، فقدتْ مركزها كأكبر اقتصاد وكأقوى جيش في العالم، وتحيط بها التحدياتُ الاقتصادية والانقساماتُ السياسية في الخارج والداخل، تلهثُ الولايات المتحدة لفعل أيِّ شيء مقابل إبطاء وتيرة تراجع وزنها الدولي، وتفعلُ كلَّ ما تستطيع فعله، بما في ذلك دفع الحرب وتعزيز العسكرة في العالم.
ما إنْ تمَّ الإعلانُ عن انضمام فنلندا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى سارع وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، للإعلان عن أنه يعتزم السفر إلى السويد خلال شهر نيسان الجاري لإجراء ما وصفها بـ«محادثات حول قضايا الأمن الإقليمي»، فضلاً عن خطط السويد للانضمام إلى حلف الناتو، معرباً عن «أمله» في أنْ تنضمَّ السويد إلى الحلف على غرار جارتها «في أقرب وقت ممكن».
حفاظاً على مصالحها، تحاول الولايات المتحدة فعلَ أيِّ شيء لإبقاء الوضع في أوكرانيا مشتعلاً، بما في ذلك عن طريق الزجّ بالدول التي كان مُناطاً بها لعبُ دور «الحياد» - مثل السويد وفنلندا - نحو الحرب في أوكرانيا وتعزيز نزعات معاداة روسيا.
على النقيض من ذلك، بدا لافتاً كيف تعمل الصين بدأب على وضع حدٍّ للحرب في أوكرانيا من خلال سعيها لمبادرة سلام تؤسّس لإنهاء الحرب استناداً لموازين القوى الدولية الجديدة، وتعميم منطق السلام مقابل منطق الحرب الأمريكي، وذلك باعتماد 12 نقطة كأساس للمبادرة: احترام سيادة كل الدول، التخلّي عن عقلية الحرب الباردة، وقف القتال، استئناف محادثات السلام، حلّ الأزمة الإنسانية، حماية المدنيين وأسرى الحرب، المحافظة على سلامة محطات الطاقة النووية، التقليل من المخاطر الاستراتيجية، تسهيل تصدير الحبوب، وقف العقوبات الأحادية، الحفاظ على استقرار الصناعة وسلاسل التوريد، وتشجيع إعادة الإعمار.
بطبيعة الحال، شكّلت المبادرة الصينية إحراجاً كبيراً للنُّخَب الغربية التي عاشت خلال العام الماضي على تكرار مزاعم «السعي الروسي للحرب» في مقابل الوقوف المزعوم لهذه النخب في صفّ السلام. لهذا، كان من الطبيعي أنْ تقابَلَ المبادرة الصينية بكثيرٍ من التشكيك، رغم أنّ واقع الأمور بدأ يجبر هذه النُّخَب على التعامل جدّياً مع المبادرة.
على مرّ التاريخ، ثمّة الكثير من الأمثلة على الدول التي تَراجَع نفوذها وكيف حاولت الحفاظ على قوَّتِها بأيّ ثمن، من الإمبراطورية الرومانية وصولاً للعثمانية ومرحلة الاستعمار الغربي، لم يسهم سعي الإمبراطوريات المتراجعة لإشعال الحروب بإبطاء تراجعها بل في تسريعه أكثر، ففي زمن أفول الإمبراطورية، لم تفلح محاولات التصعيد في تمتين الجبهة الداخلية، بل سرّعت في انهيار الاقتصاد وتزايد الانقسام الداخلي.
على النقيض، تميل الدول الصاعدة اليوم إلى التركيز على بناء مستقبلٍ أكثر استقراراً، ذلك لسببٍ أساسي هو أنَّ الاستقرار لا يتناقض موضوعياً مع مصالحها، فالإمكانات التي تملكها تتطلَّب أعلى قدرٍ من الاستقرار بحيث تُدفَع عجلةُ النمو والتكامل الاقتصادي في العالَم استناداً لمبدأ المنفعة المشتركة بين الجميع.