انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب ضربة جديدة للدولار
طَرح إعلانُ مصر رسمياً نيَّتها الانسحاب من الاتفاقية الدولية للحبوب جملةً من الأسئلة، وخصوصاً أنّ الأسباب الرسمية المعلَنة في القاهرة لا تتناسب أبداً مع كمّ التحليلات التي يجري تداولها، أو حتى مع ردود الفعل المقابلة وتحديداً تلك الصادرة عن المدير التنفيذي للمجلس الدولي للحبوب، ذلك الذي أنشئ بموجب هذه الاتفاقية.
انضمّت مصر لاتفاقية الحبوب التي جرى التوقيع عليها عام 1995 إلى جانب عشرات الدول، شملت في حينها كبار المنتجين والمستوردين، وتعدّ مصر عضواً شديد الأهمية في مجموعة تعنى بتجارة الحبوب على مستوى العالم وخصوصاً إذا علمنا أنها المستورد الأكبر للقمح ورابع أكبر مستورد للذرة، وتشتري كمية إجمالية تبلغ 12 مليون طن سنوياً لتأمين احتياجاتها المتنامية في ظل غياب مشروع وطني لإنتاج الكميات الضرورية من القمح وغيره من الحبوب الاستراتيجية.
الأسباب المعلنة
جاءت الأسباب الرسمية مقتضبةً ودون تفاصيل، فبحسب تصريحات نقلتها وكالة رويترز عن وزارة الخارجية قالت فيها: «القرار اتخذ بعد تقييمٍ قامت به وزارتا التموين والتجارة، وخلص إلى أنّ عضوية مصر لا تمثّل قيمةً مُضافة». وقال علي المصيلحي وزير التموين والتجارة الداخلية المصري إنّ قرار الانسحاب جاء بسبب عدم قدرة الاتفاقية على ضبط الأسعار في الأسواق التي ارتفعت في مرّات متكرّرة مثل أزمة 2008 و2010 في المدّة التي جرى خلالها استخدام الحبوب كوقود حيوي كما أشار اقتصاديون آخرون.
خلفية ما يجري
إعادة ترتيب الأحداث يمكن أن تضع الخطوة المصرية في سياقٍ مفهوم، وخصوصاً إذا ما أخذنا الاضطرابات التي حدثت في أسواق الحبوب بعد بدء الصدام المسلح بين روسيا، التي تحتل المركز الأول بين الدول المصدِّرة للقمح، وأوكرانيا التي تحتل المركز الخامس. فالحرب بين البلدين خلقت بلا شكّ قلقاً في أسواق الحبوب، لكن السلوك الغربي في هذه المسألة أدّى الدورَ الحاسم في زيادة الاضطرابات، فبينما تباكى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الدول الفقيرة في أفريقيا، وادّعوا أنَّ إعاقةَ شحنات الحبوب من أوكرانيا وعبر البحر الأسود ستحرم فقراءها من غذائهم الأساسي، تبيَّن لاحقاً أنّ الأغلبية الساحقة من هذه الشحنات نُقِلت إلى الاتحاد الأوروبي لا إلى إفريقيا، واستخدمت في مضاربات بورصات الحبوب ورفعت الأسعار بزيادة ملموسة عن الحد الطبيعي المتوقَّع في ظروف كهذه. وشهدنا وقتها إجراءات جوابية من عدد من الدول كانت روسيا والهند في صدارتها. وخصوصاً أنّ الدعاية الغربية حمّلت موسكو مسؤولية اضطرابات الأسواق.
عن ماذا يدور الحديث
صرّح مسؤولون مصريون سابقون لعدد من وسائل الإعلام حول الدوافع الحقيقية لهذه الخطوة، وكان أبرزها ما قاله مستشار وزير التموين المصري الأسبق نادر نور الدين، إذ أشار إلى أن مصر زادت تدريجياً من وارداتها من القمح الروسي على حساب القمح الأمريكي الذي كان المصدر الرئيسي سابقاً، ما سمح لها بتحقيق جملة من المكاسب كان أوّلُها أنَّ قُربَ المسافة سمحَ لمصر باستلام الشحنات في خلال عشرة أيام بالمقارنة بنحو 24 إلى 28 يوم لوصولها من الولايات المتحدة، هذا بالإضافة إلى انخفاض أسعار القمح الروسي بالمقارنة مع القمح الأمريكي الذي رفعتْ واشنطن أسعارَه إلى مستويات غير مسبوقة، وخصوصاً أنه «لا يوجد فارق ملموس في النوعية، ويتمتع القمح الروسي بانخفاض نسبة الرطوبة وهي ميزة غير متوفرة في أقماح عدد من الدول الغربية» حسب تأكيدات نور الدين.
من جهة ثانية أشار مستشار وزير التموين المصري الأسبق إلى المسألة الأهم وراء القرار المصري، وهو البحث عن أسواق بديلة وأنّ خروج مصر من الاتفاقية سيسمح لها بتخفيف الأعباء المترتبة على تأمين الكتلة الدولارية المخصصة لشراء الغذاء بعد أن وصلت إلى 15 مليار دولار قبل ارتفاعات الأسعار الأخيرة. صفقات الحبوب المباشرة مع روسيا أو الهند يمكن أن تتم بالعملات المحلية بعد إجراء المقاصّات الضرورية، ما يقلّل حاجة مصر إلى الدولار الأمريكي بشكل كبير، وتحديداً أنها كانت تؤمن الجزء الأساسي منه عبر قروض من صندوق النقد الدولي التي خصّص بعضها لشراء القمح الروسي! انسحاب مصر من الاتفاقية يمكن أن يكون بمثابة «كرة الثلج» وفق تشبيه نور الدين، وسيكون مقدّمة لانسحاب العديد من الدول.
أما عبد الغفار السلاموني، نائب رئيس قسم الحبوب باتحاد الصناعات المصرية، فقال صراحةً إنّ الخطوة المصرية تأتي في سياق مساعي بلاده لتقليل الاعتماد على الدولار في التجارة الخارجية وأنّ القاهرة ترغب بعقد صفقات مباشرة بعيداً عن الاتفاقية أو المؤسسات التي تعمل في ظلها، وخصّ بالذِّكر روسيا التي يمكن عقد الصفقات معها بالروبل، أو الهند التي يمكن أنْ تتم الصفقات معها عبر تبادل الأسمدة المصرية بمقابل الحبوب الهندية.
صورة أشمل
في بيانٍ صادر عن السفارة الروسية في مصر قالت فيه إنّ الغرب لن يحقّق أهدافه، وأضافت أنّ الأمريكيين والأوروبيين أخفقوا في تعطيل إمداد مصر بالقمح الروسي، ما يؤكِّد حجم الضغوط التي تعرّضت لها مصر في الفترة الماضية، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الغذاء وشهدت فيه أسواق الحبوب الاضطرابات المشار إليها، تشكّل خطرٌ حقيقي على الأمن الوطني المصري؛ فالقمح يعتبر مصدراً غذائياً أساسياً بالنسبة للمصريين والمؤكَّد أنّ رغبة مصر في التوجه إلى روسيا لشراء احتياجاتها قوبلت بتضييقات غربيّة. حتى لو أدّى ذلك لتأخير وصول شحنات الغذاء مع ما يترتّب عليه من كوارث داخل مصر. أيْ أنّ الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة قامتْ بأعمال عدائية ضدّ مصر في الأشهر الماضية ذات مستوى عالٍ من الخطورة ما يمكن أن يضعَ انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب الدوليّة بوصفه إجراءاتٍ جوابيّة على السلوك الغربي.
في أزمة عام 2008 وبعد تضاعف أسعار الحبوب، خسرت الدول الفقيرة ما يصل إلى 1% من إجمالي ناتجها القومي! وهو ما يشكّل ضربة كبيرة لميزانيات فقيرة. ولم تكن في حينها الظروف على المستوى الدولي تسمح لهذه الدول بالبحث عن خيارات بديلة لتأمين احتياجاتها التي كانت تسعّر بالدولار في البورصات الغربية، أما اليوم فالواقع اختلف ويمكن الاعتماد على كبار منتجي الحبوب في العالم وفي الشرق تحديداً كروسيا والصين والهند وباكستان في تأمين معروض كبير في السوق العالمية تجري مقايضتُه بسلعٍ أخرى أو يتمّ تسعيرُه بالعملات المحلية لأطراف الصفقة، ما يساعد عدداً كبيراً من الدول النامية بالتخلّص من «إدمانها الدولاري» ويقلِّل الطلب على العملة الأمريكية وهذا ينسجم مع مجمل التطورات الموازية في العالم كتراجع البترودولار مثلاً.
نموّ العلاقات المصرية-الروسية والمصرية-الهندية بالإضافة إلى القائمة الطويلة من الدول التي اشترت منها مصر شحناتٍ من الحبوب تؤسّس لتحويلها لمركزٍ لتخزين ونقل الحبوب إلى إفريقيا، إذ يجري تطويرُ الموانئ المصرية لاستقبال هذه الشحنات. وتملك مصر البنية التحتية اللازمة للنقل إلى دول الجوار وتعمل على زيادة قدرة الصوامع لتخزين كمّيات أكبر، ما يمكن أن يساعدها في استعادة جزء من وزنها الإقليمي السابق إلى جانب تأمين موارد مالية جديدة وتحقيق استقرار استراتيجي في مسألة خطرة مثل تأمين الغذاء الضروري للمصريين.