ضغوط على واشنطن لجلوسها إلى طاولة المفاوضات وتحميلها المسؤولية
تتعالى الأصوات التي تحمّل مسؤولية ما يجري في أوكرانيا للولايات المتحدة الأمريكية، سواء من داخلها أو خارجها وتحديداً من حلفائها. بالتوازي مع ذلك تكثر المطالبات لها ببدء مفاوضات مع روسيا لحل الأزمة.
منذ ما قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما بعدها، أبدت روسيا مراراً استعدادها لحل الأزمة سياسياً وعبر المفاوضات مع أوكرانيا، إلا أنّ الأخيرة وبإيعاز أمريكي أولاً، كانت ترفض هذا الأمر بشكل متشدّد مصحوباً بتصعيد سياسي وميداني، خلف ذرائع مختلفة. ومنذ أنْ انتقل الصراع في أوكرانيا لمستوى دولي حيث باتت المعركة تدور بين روسيا والدول الغربية مجتمعةً على الأراضي الأوكرانية، بات حل الأزمة يتطلب مفاوضات على المستوى نفسه، ومع الولايات المتحدة مباشرةً، إلا أنّ الأخيرة لا تزال بتشدّدها نفسه، وذلك على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تتعرّض لها، والأكبر منها ما يصيب أوروبا بمختلف أنواع الأزمات اقتصادياً وسياسياً، فضلاً عن التهديدات بتحول المعركة إلى حرب نووية.
الولايات المتحدة تتحمّل المسؤولية
إثر ذلك، تتزايد الانتقادات والضغوط الداخلية والخارجية على الإدارة الأمريكية المثقلة بالأزمات، وكثرت المطالبات لها بإيقاف الدعم لأوكرانيا ومساءلتها من قبل ضباط متقاعدين كان من بينهم دانيال ديفيس، عن أسباب تعزيز وجودها العسكري في أوروبا الشرقية.
وكانت قد نشرت مجلة Foreign Affairs مقالاً في 29 تشرين الثاني تحمّل فيه الولايات المتحدة مسؤولية التهديد النووي وعرقلة المفاوضات، جاء فيه مثالاً أنّ «شعار واشنطن هو دعم كييف لأطول فترة ممكنة واستبعاد، على الأقل في الوقت الحالي، التحركات العملية نحو الدبلوماسية» في حين أنّ «الصراع المطوَّل في أوكرانيا سيقوّض الاقتصاد العالمي. وسيتضرّر الشركاء التجاريون الأكثر أهمية وحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بشدة، ويرجع ذلك أساساً إلى ارتفاع أسعار الطاقة».
وكان قد دعا الرئيس السابق للجمعية البرلمانية لحلف الناتو، الفرنسي بيير لولوش، خلال مقابلة له مع صحيفة لو فيغارو، لعدم الارتهان لأوكرانيا [أي الولايات المتحدة عملياً] في تحديد موعد إنهاء الصراع نيابةً عن الجميع، وقال «لا يمكن ترك أوكرانيا وحدها لتقرر متى ينبغي أن يتوقف هذا كله. لقد تحول هذا النزاع إلى صراع عالمي بسبب عواقبه على الاقتصاد والطاقة والغذاء والجغرافيا السياسية في جميع أنحاء الكوكب» مشيراً إلى أنّ استمرار المواجهة يهدّد باستخدام الأسلحة النووية وأنّ «الحكمة تقتضي أنْ نبحث بشكل عاجل عن قنوات اتصال سرّية مع الكرملين من أجل الاستعداد لخفض التصعيد».
ماكرون يطالب أمريكا علناً بالجلوس إلى طاولة المفاوضات
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته إلى الفاتيكان بتاريخ 24 تشرين الأول، بدعوة الولايات المتحدة الأمريكية للجلوس إلى طاولة المفاوضات لحل أزمة أوكرانيا قائلاً «نحن بحاجة إلى أنْ تجلس الولايات المتحدة الأمريكية إلى طاولة المفاوضات لدفع عملية السلام في أوكرانيا».
إنّ تخصيص الولايات المتحدة وحدها بهذا الشكل يُقصد منه بالمعنى السياسي والعملي أولاً أنّ واشنطن هي من تعرقل المفاوضات وترفضها، وثانياً دعوة غير مباشرة لبقية الأطراف الأوروبية للقيام بضغطٍ مماثل.
خروج فرنسا عن النصّ والطاعة الأمريكية بهذا الشكل ليس الأول من نوعه، وهو بالدرجة الأولى مدفوع بحجم الأزمات الأوروبية المتراكمة والمتسارعة موضوعياً بالعموم، والأزمات الفرنسية الداخلية خصوصاً، التي باتت تواجه ردود فعل شعبية واسعة تهدّد استقرار البلاد وقدرة نخبتها المالية على استمرارها بالحكم، أي أنه وعلى الرغم من أنّ مواقف وتصريحات ومبادرات فرنسا المختلفة تصبّ إلى حدّ ما باتجاه استقلالية أوروبا عن الهيمنة الأمريكية بسبب تبعات الملف الأوكراني أولاً، إلا أنّ محرّك ذلك هو المصلحة الضيقة لنخب المال وتخوفاتهم من الخسارة وفقدان السيطرة. وإنْ كان ماكرون يعبّر عن ذلك بجرأة وعلانية، فإنّ الموقف نفسه موجود لدى بقية الدول الأوروبية.
هل ستدخل الولايات المتحدة المفاوضات؟
لا يبدو أن إدارة بايدن الحالية الممثلة عن الشقّ العدواني ضمن طرفي الانقسام الأمريكي تمتلك أية نيّة ببدء مفاوضات أو خفضٍ للتصعيد، وبسبب ذلك يزداد التعويل على قدرة طرف الانقسام الآخر، تيّار الانكفاء، على الفوز بمعركة انتخابات التجديد النصفي المقبلة وتأثيره على القرارات الأمريكية بشأن الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، وكانت قد نشرت صحيفة The National Interest مقالاً تشير فيه مباشرةً إلى أنّ الولايات المتحدة ستخوض مفاوضات مع روسيا بحال فوز الحزب الجمهوري في هذه الانتخابات.
وتدلّ جميع البيانات والمؤشرات واستطلاعات الرأي على وجود ميل سياسي وشعبي لصالح تيّار الانكفاء ومواقفه من الملف الأوكراني، وهو نتاج تطوّر موضوعي بطبيعة الحال.
رغم ذلك، من غير الممكن الجزم تماماً بدخول الولايات المتحدة مفاوضات مع روسيا حتى وإنْ ربح هذا الطرف بالانتخابات، كما أنّه أمرٌ مستبعد إلى حد ما، فالجمهوريون و/أو تيار الانكفاء بقيادة ترامب، لم يعلنوا رغبةً بالمفاوضات، فضلاً عن أنّ مثل هذا التحوّل الدراماتيكي من التشدّد إلى القبول بالتفاوض يحتاج تحوّلات وتمهيدات تتطلب وقتاً لا يمتلكه أي طرف، كما أنّ لا مصلحة سياسية لواشنطن حالياً أو مستقبلاً بالتفاوض على الخسارة وارتدائها أمام العالم، إلا أنّ إيقاف الدعم المالي والعسكري بحدّ ذاته قد يكون كافياً لإعادة مستوى الملف لحجمه الطبيعي ما بين روسيا وأوكرانيا، ويفرض بالتالي على نظام زيلينسكي القبول بخفض التصعيد ودخوله المفاوضات وتحمّله لوحده التبعات السياسية للخسارات فيها، دون تناسي أنه وفي نهاية المطاف يبقى ممثلاً عن الولايات المتحدة وسيحاور بلسانها وأمرها.