أزمات حكم الأنغلوساكسون مزمنة ولا حلّ لها
بات يعاني الأنغلوساكسون بمركزهم في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أزمات حكم حقيقية، ومزمنة، غير قادرين على تأمين استقرار حكومي و/أو سياسي في بلدانهم نتيجةً لتفاقم وتعمق أزمتهم الاقتصادية، بما يهدد ويضع على طاولة البحث إمكانيات استمرار وحدتهم ووجودهم مستقبلاً.
من هم الأنغلوساكسون؟
قبل التطرّق لمناقشة أزمات الحكم، لا بدّ أولاً من توضيح مَن هم الأنغلوساكسون ولماذا تُخصِّص مختلف القوى السياسية والدولية، ومن بينها روسيا، ذِكرَهم في خطاباتها.
ينبغي التأكيد أولاً على أنّ لا علاقة مباشرة للجانب التاريخي-العِرقي للأنغلوساكسون كقبائل جرمانية قديمة مع ما يُقصَد بالمصطلح اليوم، حتى أنّ المؤرِّخين الغربيّين أنفسهم لا يتّفقون تماماً على الأصول العِرقية للأنغلوساكسون الذين استوطنوا إنكلترا في بدايات العصور الوسطى، ويُرجِعهم البعض إلى البلاد النورمانية والفايكنغ أيضاً، ونشير إلى ذلك موضّحين، حيث إذا قام أيْ أحد بالبحث عن الأنغلوساكسون عبر الإنترنت سيجد مقالات ومقاطع فيديو تروي تاريخ أوروبا وإنكلترا ودور الأنغلوساكسون في محاربة الرومان وصولاً لإقامة «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس».
أما في العلاقة غير المباشرة، يتفق الكثير من الباحثين والمؤرّخين على أنّ الأنغلوساكسون يمثلون رمزاً ونواةً ثقافية وسياسية إنكليزية-أمريكية، منذ فترة صعود الإمبراطورية البريطانية ثم استكشاف القارة الأمريكية الشمالية واستعمارها من قبل الإنكليز بالدرجة الأولى وبقية الأوروبيين ثانياً، لتصبح مركزهم و«إمبراطوريتهم» الجديدة، ومن ذلك فإنّ المقصود بالأنغلوساكسون جغرافياً اليوم: المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية باعتبار نخبهما الحاكمة من خلفية ثقافية سياسية وحتى اقتصادية واحدة... وإنْ أردنا التوسّع أكثر فإنّ المصطلح يشمل أيضاً نيوزيلندا وأستراليا من الناحية التاريخية الاستعمارية للمملكة.
وهذه النواة اليوم في الحقيقة تعدّ بمثابة رمز يعبـّر عن عقيدة/إيديولوجيا مستندة إلى طروحات وإنتاجات سياسية متطرّفة وإجرامية من «تفوّق العرق الأبيض» وصولاً للمالتوسية ثم النيومالتوسية والمليار الذهبي، مروراً بكافة البنى الاجتماعية والأخلاقية التي تعزز الفردانية بغطائها الليبرالي، أو تبريرات إجرامية كمقولة «أضرار جانبية» فيما يتعلق بضحايا الحروب التي قد تصل لمئات الآلاف من المدنيين والأبرياء.
ومن ذلك، تُشكِّلُ هاتان الدولتان قلبَ السياسة الغربية عموماً ونخبتها المهيمنة، وهي نتيجة موضوعية لتركّز وتمركز رأس المال تاريخياً منذ مرحلة الاستعمار البريطاني والانتقال للولايات المتحدة.
في الخطاب الروسي
للدلالة على حجم الصراع الدولي، بقيادة روسيا، مع الأنغلوساكسون تحديداً وتخصيصهم بالخطاب السياسي، نورد تصريحين قريبين، أحدهما لسكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف: «لم يتغير أسلوب الأنغلوساكسون منذ عدة قرون، فيستمرون اليوم أيضاً بإملاء شروطهم على العالم، متجاهلين بكل غطرسة الحقوق السيادية للبلدان، بينما يقومون بإخفاء أفعالهم خلف خطابات حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، إنهم يمضون قدماً بعقيدة «المليار الذهبي» بما تعنيه أنّ قلّةً مختارة فقط هي من يحق لها الازدهار في هذا العالم».
والتصريح الآخر ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد تفجير خطّي أنابيب الغاز «نورد ستريم» متهماً إياهم قائلاً: «لم تكن العقوبات كافيةً بالنسبة للأنغلوساكسون لذا تحوّلوا إلى التخريب».
للتوضيح، تصريح باتروشيف الذي تضمّن قولَه «عدة قرون» يُعزى إلى خصوصية العلاقة الروسية، القيصرية سابقاً، مع الأنغلوساكسون في مرحلة المملكة المتحدة الاستعمارية، والغاية منه التشبيه بما يجري في الحاضر من محاولتهم إرضاخ الكوكب لشروطهم، بدءاً من روسيا. كما أنّ التأكيد مراراً على الأنغلوساكسون في خطابهم يحمل رسالة سياسية بلحظات محددة لتمييز المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضمن الصراع الجاري عن باقي الدول الأوروبية بما فيها فرنسا وألمانيا.
وفي هذا السياق نذكر مثلاً التحالف العسكري بدءاً من صفقة الغواصات الذي جرى بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا «أوكوس»، أيْ أركان الأنغلوساكسون الثلاثة، بعد استبعاد فرنسا منه، والأخيرة بدورها تنادي بإقامة تحالف دفاعي أوروبي لا وجود للولايات المتحدة فيه.
أزمات الحكم: الولايات المتحدة
مع تفاقم واشتداد الأزمة الرأسمالية، ظهرت انعكاساتها ضمن هذا المركز الغربي سياسياً بطبيعة الحال، بدءاً من حالة الانقسام ضمن النخبة الأمريكية الحاكمة أولاً ثم البريطانية.
بالحالة الأمريكية خاصة، توضَّحَ الانقسام بشكل جليّ مع بروز تيار الانكفاء ممثَّلاً بترامب، وتوضَّح تيّار الحرب أو العدوان ممثّلاً بكلينتون ثم بايدن، ولا بدّ من التأكيد على أنّ طرفي الانقسام يختلفان عن المسرحية الهزلية الديمقراطية ما بين ديمقراطيين وجمهوريين، ويوجد لكل منهما ممثّلِين داخل الحزب الديمقراطي والجمهوري وإنْ بنسب متفاوتة، لتُظهِرَ المرحلةُ الراهنة الجمهوريين أكثر ميلاً نحو تيار الانكفاء، إلا أنّ ذلك مرهونٌ بعدة عوامل داخلية، ومؤقَّت.
يختلف طرفا الانقسام الأمريكي حول كيفيّة التعامل مع الأزمة الرأسمالية الراهنة، سياسياً واستراتيجياً، فيسعى طرفٌ منها لإدامة التوسُّع والهيمنة الأمريكية تجاه العالم ضمن العقلية الأنغلوساكسونية التقليدية، ومساعيهم بتقسيم ما لم يقسَّم بعد من بلدان الشرق، بدءاً من روسيا، وتحريك أدواتهم الحربية لتنفيس الأزمة بثلاثي الدولار والبترودولار والمجمَّع الصناعي العسكري، بينما يرى تيار الانكفاء في ذلك مساراً انتحارياً في اللحظة الراهنة ويسعى لتمتين اقتصاده داخلياً كأولوية حالية للخروج بأقلّ الخسائر الممكنة من الأزمة ومستقبلها.
وبسبب انسداد الأفق أمام الأمريكيين بوجه تنفيذ مشروعاتهم العدوانية خارجياً، مع بروز قوى دولية تتصدى بكفاءة لهم، وتفاعل الأزمة الرأسمالية بشكلٍ متسارع، انتقل الانقسام لمستويات صراع أكثر حدة، بلغت ذروتَها سابقاً بأحداث اقتحام الكابيتول في 2021. ولا يزال يتفاعل مهدّداً وحدة البلاد السياسية والجغرافية، فأزمة الحكم تعني وجود طرفين أو أكثر غير قادرين على التفرّد بالسلطة وتأمين استقرار داخلي لتنفيذ مشروعاتهم، واستمرار هذا الحال من الانقسام دون حلّ أو توافق سيؤدّي موضوعياً للتقسيمٍ بعد مرحلة من الصراع والفرز.
أزمات الحكم: المملكة المتحدة
وفي حالة المملكة المتحدة جرى ولا يزال، أمرٌ مشابه، نتيجة للأزمة الرأسمالية والخلافات حول كيفية التعامل معها، وامتداداً للحالة الأمريكية، حيث بدأت ملامح الانقسام تتَّضِحُ فيه منذ طرح فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست» والتصويت لأجله.
فمنذ ديفيد كاميرون، إلى تيريزا ماي، فبوريس جونسون، وأخيراً ليز تراس التي لم تستطع أنْ تكمل شهرين من فترة رئاستها، لا تزال تبعات بريكست وتفاصيله وكيفية التعاون مع الاتحاد الأوروبي مجتمعاً أو دوله منفصلة، غير واضحة ومتفق عليها فعلاً من جهة، كما لا يوجد إجماع حول كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية وتطوراتها في المملكة من جهة أخرى، وذلك وسط ارتفاع أصوات الاستقلال داخل مكونات المملكة جميعها، فضلاً عن خصوصية إيرلندا الشمالية.
من المهم الإشارة إلى أنّ الترّهات الإعلامية التي يجري نشرها بوصفها أسباباً للخلافات السياسية سواء ضمن الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، من مثل قضايا ضد جونسون وإقامته حفلات وسط أزمة كورونا، أو بايدن المتعثّر بكلامه، أو ترامب الجلف وجداره مع المكسيك، تمثل جميعها قنابل دخان لتغطية الخلافات العميقة والانقسام الجاري، وهي بالوقت نفسه أدوات يستخدمها طرفا الانقسام لتشويه خصومهم في الرأي العام.
والجدير بالذكر أنّ أزمة حكم الأنغلوساكسون قد بدأت منذ ما قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بكل ما نتج عنها أوروبياً وأمريكياً أساساً، خلافاً لبقيّة دول أوروبا التي تطوّرت أزماتها بشكل متسارع بعد أحداث أوكرانيا من جهة، ونتيجةً لتسارع مفاعيل انقسام الأنغلوساكسون أنفسهم من جهة أخرى... فضلاً عن أنّهم هم مَن قاموا بدفع الدول الأوروبية كقرابين تلبيةً لمصالحهم، مثل العقوبات التي لم تؤدِّ إلا لإضعاف اقتصاداتهم، والتصعيد العسكري مع روسيا الذي وضع أوروبا تحت التهديد المباشر، بما فيه النووي.
دومينو انهيارات سياسية؟
بكلّ ما ورد ذكره سابقاً عن الانقسام وأزمة الحكم، لم نتطرّق إلى الدور الشعبي وضغوطه في المسألة. فتراجع المستويات المعيشية بهذا الشكل المتسارع ضمن هذه الدول يشكّل صدمة اجتماعية، كان قد سبقها أساساً صدمة كورونا وكيفية إدارة الأزمة الصحية من قبل حكوماتهم، وتَبِعَها التدخُّل والمصاريف المهولة للغربيِّين لصالح نظام زيلينسكي وسط مستويات تضخم قياسية وأزمة طاقة ومال وبطالة وركود، وأخيراً التخوّفات الحقيقية من حرب نووية عالمية يدفع نحوها الأنغلوساكسون بقسمهم العدواني تحديداً بكلّ تهوّر.
من هنا يمكن القول إنّ مستقبل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وسط أزمات حكمهم والردود الشعبية لاحقاً، يهدّد استمرار كلٍّ منهما بوصفهما «متّحدتين» جدّياً، وتطوّرات هذا الأمر ستلقي بظلالها على كامل أوروبا، لدرجة أننا قد نشهد دومينو انهيارات سياسية على مستوى الدول والتحالفات - من مثل الناتو ومؤسسة الاتحاد الأوروبي - والذي كانت تراس مجرّد عرض ترويجي قصير- «برومو» - له.