السلام بين بايدن وترامب
مع تفاقم الأزمة الرأسمالية وتغيّرات موازين القوى الدولية المرافقة لها، انكشف الستار عن انقسام أمريكي عميق وحاد تجلّى أحد تعبيراته السياسية بوضوح ما بين تياري ترامب وبايدن، بكل ما تخللها من مواجهات وتباينات في إدارة العسكر والاقتصاد والسياسة داخلياً وخارجياً، والتي وصلت لدرجة المواجهات الميدانية مثلما جرى في أحداث الكابيتول عشية الانتخابات الأمريكية السابقة... والآن مع وصول فترة عهد بايدن لمدتها النصفية، بدأت تتصاعد الأحداث مجدداً تمهيداً لانتخابات 2024، لكن المفارقة أنّ تيار ترامب بات يحصد الآن دعماً وتأييداً دولياً وداخلياً له بعد أنْ تسببت إدارة بايدن بالكوارث لحلفائها ولنفسها وباتت تهدد السلم العالمي.
ذكرت قاسيون مراراً الفكرة القائلة بموضوعية التراجع الأمريكي بصرف النظر عن الإدارة التي قد تقود البلاد، وأنّ جلّ الفرق بين الإدارتين هو مدى سرعة وكيفية المضي بهذا التراجع، وتأثيرات ذلك على الداخل الأمريكي ووحدة الولايات نفسها.
بل وعلى الرغم من أنّ ترامب قد وُصف بـ «الحاد» ويفتقر للسلوك الدبلوماسي والبراغماتي الأمريكي المعهود بالتعاطي مع حلفائه، حيث طالب أعضاء الناتو مباشرة برفع حصة التحالف من الناتج المحلي الإجمالي، وابتزّ السعودية بحمايتها مقابل المال، كأمثلة، إلا أنّ فترته لم تتسبب بضررٍ مباشر وسريع لهؤلاء الحلفاء بدرجة تستدعي ردَّ فعل معادياً له مثلما جرى مع إدارة بايدن العدوانية التي وضعت كامل أوروبا على الجبهة الأمامية وخنقت اقتصادها وقطعت موارد طاقتها بينما تختبئ واشنطن في خندق خلفها.
حلفاء واشنطن يخالفون إدارة بايدن
إن أغلبية حلفاء واشنطن يمتلكون اليوم موقفاً سلبياً تجاه إدارة بايدن وسلوكها، ويعبّرون عن ذلك سواء بالأقوال أو الأفعال المخالفة لتوجيهات ورغبات واشنطن والبعيدة عنها، وكأمثلة سريعة عن ذلك: من أمريكا اللاتينية كالبرازيل التي تزيد من تطوير علاقات إيجابية مع روسيا والصين، إلى الخليج العربي كالسعودية ومخالفتها توجيهات واشنطن فيما يتعلق بأسعار النفط وإنتاجه، وفي أوروبا المجر وفرنسا وألمانيا، سواء بحديث الأخيرتين المتكرر حول تحالف عسكري جديد لا وجود للولايات المتحدة فيه، أو تصريحات الأولى التي تعبّر بشكل مباشرٍ وواضح عن حالة الاستياء هذه لا من المجر وحدها بل من كل من سبق ذكره، وسنأخذها مثالاً مفصلاً.
المجر تعبّر عن استياء عام
أطلق رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يوم الثلاثاء، 11 تشرين الأول، عدة تصريحات لافتة، حيث قال حول الملف الأوكراني إنّ «وقف إطلاق النار لا يجب أن يكون بين روسيا وأوكرانيا، بل بين أمريكا وروسيا... من يعتقد أن هذه الحرب ستنتهي عبر مفاوضات روسية-أوكرانية لا يعيش في هذا العالم» مشيراً إلى أن أوكرانيا تتمكن من «الدفاع عن نفسها» بمواجهة الروس لأنها تتلقى دعماً عسكرياً من الولايات المتحدة فقط، وأن الحرب باتت مفتوحة اليوم لأن الولايات المتحدة أرادتها هكذا و«لهذا السبب يتعين على الأمريكيين أن يتفقوا مع الروس. وحينها ستنتهي الحرب».
لكنه تابع مؤكداً أن إدارة بايدن الحالية ليست مفاوضاً جيداً بالنسبة للجانب الأمريكي قائلاً «لقد تمادى الرئيس الأمريكي... سيبدو ما أقوله مستهجناً، لكن الأمل في السلام يعني دونالد ترامب».
ويذكر أن وزير الخارجية المجري كان قد صرّح سابقاً أيضاً بأن العقوبات الغربية على روسيا انعكست على الشعوب الأوروبية قائلاً «العقوبات مؤلمة جداً بالنسبة لنا، نحن المجريين، وكذلك لكل سكان أوروبا. أعتقد أنّ هذه العقوبات كانت أشد إيلاماً لنا من أولئك الذين فرضت ضدهم... الحل الوحيد في الوضع الراهن هو السلام؛ لأنه إذا كان هناك سلام، فلن تكون هناك عقوبات» وفي التاسع من شهر أيلول السابق قال أوربان إنّ «العقوبات المفروضة ضد روسيا، قد تجبر أوروبا على الركوع على ركبتيها» فـ «محاولات إضعاف الروس لم تنجح، بل على العكس من ذلك، فإنّ التضخم الحاد، ونقص الطاقة الناجم عن العقوبات قد يجبر أوروبا على الركوع».
الأمل في السلام يعني ترامب؟
في الحقيقة، لم تكن تُعنى إدارة ترامب بالسلام الأوروبي ولن تُعنى بذلك مستقبلاً إنْ عادت لقيادة الولايات المتحدة، وفيما يتعلق بأزمة الطاقة مثالاً فإنّ إدارة ترامب لم تترك باباً إلا وأدخلت منه العقوبات والضغوط على ألمانيا باتفاقها مع روسيا فيما يتعلق بخط غاز السيل الشمالي2، لكن الفرق الرئيسي يكمن بكيفية إدارة الأزمات ومصاريفها والمكاسب منها بكل وضوح وحدّية ترامب وقلة دبلوماسيته، وعليه فإنّ تياره يعارض تماماً تدخل بلاده العسكري في أوكرانيا لما تحمله من مصاريف عسكرية مهولة بالدرجة الأولى، وتتركّز مناورته تجاه الصين، التي باتت الأولى اقتصادياً في العالم، ومحاولات إبطاء تقدمها، وكيفية نجاة الولايات المتحدة من تأثيرات التضخم وانهيار الدولار مستقبلاً.
بمعنى آخر، تمضي إدارة بايدن بجهودها العدوانية وبمحاولتها البائسة بإدامة الهيمنة الأمريكية على تدمير حلفائها واحداً تلو الآخر والاستفادة من ضعفهم دون أن يتسبب ذلك بأيّ ضرر يذكر على خصومها الشرقيين، بينما ترى إدارة ترامب - أو تيار الانكفاء - في ذلك خسائر أكبر وتسارعاً لانهيار الولايات المتحدة نفسها عوضاً عن تمتين اقتصادها داخلياً - تحديداً منه الاقتصاد الحقيقي الصناعي والزراعي عوضاً عن المالي - تمهيداً لمواجهة الانهيار القادم.
وإذا كان ما سبق يمثل جزءاً من ردود الفعل الخارجية على الإدارة الحالية، فإنّ ردود الفعل الداخلية أكبر وأهم، ومن الأمثلة المعبرة عنها وتشكل مؤشراً عن ذلك تخوفات الأمريكيين من نشوب حرب عالمية جديدة، أو الانتقادات الكبرى والمتزايدة للمصاريف العسكرية المهولة، وسط ارتفاع أسعار الطاقة والسلع، أو حتى السخرية من بايدن بأخطائه وعثراته كرمزٍ معبّر عن تياره والتقليل من شأنه، وغيرها الكثير، بمقابل ميلٍ مؤيد متزايد تجاه تيار ترامب.