توسع إضرابات عمّال فرنسا من شرارة قطاع الطاقة
رهام الساجر رهام الساجر

توسع إضرابات عمّال فرنسا من شرارة قطاع الطاقة

تأتي الإضرابات في فرنسا وسط اندلاعٍ للصراع الطبقيّ عالميًّا، يُسارِعُه الارتفاع السريع في التضخم الذي بات يُثقل كاهل الاتحاد الأوروبي - عدا عن الأزمة العميقة التي تصيب كامل المركز الرأسمالي - حيث أخذت مفاعيله بحكم الضرورة الموضوعية بالظهور على شكل احتجاجاتٍ واضطراباتٍ اجتماعيّة، للحركة العُمّاليّة الجانب الأبرز منها.

دخلت المواجهة بين النقابات العُمّاليّة في فرنسا وإدارتيّ شركة توتال إنيرجي وشركة إسو-إيكسون موبيل النفطيّتين أسبوعها الثالث في أطول حركة إضراب شهدتها أوروبا هذا العام، إضراب شلّ قطاع الطاقة والاقتصاد الفرنسيّ في وقتٍ حَرِج تعيشه البلاد، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود وانخفاض القوّة الشرائيّة، حيث صوّت عمّال المصافي المضربون يوم الأربعاء الفائت على استمرار الإضراب، رغم عزم الحكومة على كسره وإعادة العمّال قسريًا للعمل.

تجديد الإضراب

شلّت الإضرابات العُمّاليّة المُطالِبة برفع الأجور ستة من أصل سبع مصافٍ للوقود في فرنسا، مما أدى إلى نقص في الإمدادات بأكثر من 60% في الأيام الأخيرة، وبحسب صحيفة «لوموند»، فإنّ الصدمة الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة يعادل اقتطاعاً بنسبة ثلاث نقاط من الناتج المحلي الخام في الاقتصاد الفرنسي، أي ما يعادل 70 إلى 80 مليار يورو، الأمر الذي ألقى بظلاله على النشاط الاقتصادي، ولا سيما شمال فرنسا ومنطقة شمال وسط البلاد، حيث أكّد الاتحاد العام للعمال (CGT أو«الكونفدررالية العامة للشغل») - الذي يُمثّل كتلة كبيرة من العُمّال في شركتيّ النفط وأكثر الاتحادات النقابيّة الفرنسيّة الثمانية نضاليّة ويحمل اتجاهاً يسارياً جذرياً - أكّد عزمه تجديد الإضراب، الثلاثاء، ليشمل إغلاق 15 محطة إضافيّة للطرق السريعة التابعة لشبكة «أرجيديس» التابعة لشركة توتال، والتي صرّحت من جهتها أنّها لن تجلس على طاولة المفاوضات إلا بشرط وقف الإضراب، وقبلها إرجاء مفاوضات الأجور إلى تشرين الثاني المُقبل دون تاريخ محدد، وهو ما وصفته النقابات بـ «الابتزاز».

وتطالب النقابات في شركة توتال إنيرجي بزيادة الأجور بنسبة 10% وبأثر رجعي لعام 2022 بالكامل: 7% لتعويض التضخم و3% للمشاركة في الأرباح التي حققتها الشركة خلال النصف الأول من العام الحالي والتي تقدر بـ 10 مليارات دولار، أما في شركة إكسون موبيل، فتسعى النقابات إلى زيادة الأجور بنسبة 7.5% بالإضافة إلى مكافأة قدرها 6 آلاف يورو لتقاسم بعض أرباح الشركة البالغة 18 مليار دولار في الفترة بين كانون الثاني وتموز الفائت.

التوزيع العادل للثروة

صرّحت الحكومة التي فشلت في إدراك جديّة الإضراب - كما فشلت سابقاتها مع السترات الصفراء - مع نفاذ الوقود واشتداد الخناق عليها، يوم الثلاثاء 11 تشرين الأول، أنّها ستجبر عددًا من العُمّال من شركة إسو-إيكسون موبيل على العودة إلى مصانعهم، حيث قالت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن «لقد طلبت من مفوضي الشرطة أن يبدأوا، حسب ما يسمح به القانون، في طلب الأفراد الأساسيين لمرافق هذه الشركة»، ليرد إيمانويل ليبين أحد كبار ممثلي الطاقة في نقابة CGT في مقابلةٍ إذاعيّة: «يمكنني أن أضمن لك أنّه ستكون هناك حرب... إذا أراد ماكرون أن ينتشر هذا إلى أجزاء أخرى من الاقتصاد، فدعوه يفعل ذلك».

رئيسة الحكومة لم تتأخر في تنفيذ تهديدها، إذ سلّمت الشرطة بلاغات الاستدعاء لأربعة عُمّال في شركة إكسون موبيل يتوّلون مهمة فتح الصنابير في مصفاة بور جيروم في النورماندي، ليأتي الرد حيال ذلك عبر اتحاد العُمّال العام CGT الذي أعلن أنّه سيتقدم بنقض هذا القرار، كونه يشكّل خرقاً لحق الإضراب الذي يضمنه الدستور، في حين كانت الاستجابة المهمّة في تحوّل الحراك إلى دعوة لإضراب عام يشمل قطاعات أخرى احتجاجًا على قرار الحكومة، وبالفعل بدأ اليوم الثلاثاء 18 تشرين الأول، يشهد بداية ما اعتزمه الحراك من إضراب وطني واسع في فرنسا، بعد نداء وجهته الخميس أربع نقابات رئيسيّة فضلاً عن مُنظّمات شبابيّة عدة، وسيطال إضراب الثلاثاء خصوصًا شركتي السكك الحديد SNCF والنقل العام في باريس RATP، مع التلويح بالدعوة إلى «التعبئة العامة» في جميع القطاعات عند الطلب الأول لأحد مواقع النفط في البلاد بحسب CGT التي اعتبرت أنّ الإضراب الوطني سيساعد في مطالب «التوزيع العادل للثروة».

الصراع الطبقي

اتخذت الحكومة على إثر ذلك سلسلة من الإجراءات لمحاولة تهدئة الوضع خلال الأيام الماضية، بما في ذلك الاستفادة من احتياطيات النفط الاستراتيجيّة، فيما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشركات النفطيّة والنقابات إلى «تحمّل المسؤوليّة» مُعتبراً أنّ «الإغلاق ليس وسيلة للتفاوض»، في الوقت الذي يستعد فيه ماكرون للمضي قُدمًا في إصلاح نظام المعاشات التقاعديّة بما في ذلك رفع سن التقاعد - كما تعهد خلال حملة إعادة انتخابه - وأصدر تهديدًا مُبطّنًا بحلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانيّة مُبكّرة إذا اتحدت أحزاب المعارضة لعرقلة الانتخابات البرلمانيّة، هذه الإصلاحات التي وصفها رئيس حركة فرنسا الأبيّة جان لوك ميلانشون بأنّه «لا شيء يبرر هذه «الإصلاحات» باستثناء الإرادة لإنشاء توازن للقوى مع الشعب باسم الأوليغارشيّة التي يُجسّد هيمنتها... إنّ محاربة الطبقة الحاكمة وجهاً لوجه هو أفقنا الوحيد في ضوء عنف العدوان الذي يتكشف على جبهة إعانات البطالة ونظام المعاشات التقاعدية».

تأتي «إصلاحات» ماكرون لنظام المعاشات وتهديد بورن بسحق إضراب المصفاة لا كتحذير للعُمّال في فرنسا فحسب، ولكن أيضًا كتحذير على المستويين الإقليمي والدولي، من أنّ تصعيدًا هائلاً في الصراع الطبقيّ جارٍ، فبينما تُبدّد النُخب الحاكمة تريليونات اليورو على عمليّات إنقاذ البنوك والإنفاق العسكري وسط حرب الولايات المتحدة لاحتواء روسيا والصين، لتدمير منافسيها وإزاحتهم عن الساحة العالميّة بما فيها أوروبا، فإن الحكومات الرأسماليّة في جميع أنحاء العالم وعبر سلوكها الوحشي تُعلن أيضًا الحرب على الطبقة العاملة التي بدأت بالتحرك مجددًا وبشكل مضطرد - رغم فترات الجزر والانحسار - عبر أشكالٍ ودماءٍ جديدة إلا أنّها لن تتوقف قبل أنّ تنتزع حقوقها كاملة.