لماذا هناك حاجة إلى ثورة لتغيير الإنترنت؟

لماذا هناك حاجة إلى ثورة لتغيير الإنترنت؟

في 29 أيلول/سبتمبر الماضي، في بوخارست برومانيا، انتخب أعضاء الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) التابع للأمم المتحدة، الأمريكية دورين بوغدان مارتن رئيسةً له التي حصلت على أغلبية 139 صوتًا في حين خسر منافسها الروسي ألكسندر إسماعيلوف الذي حصل على 25 من 172 صوتاً للدول الأعضاء التي صوّتت. وكان الحدث مناسبة ليس فقط لإعادة النقاشات إلى الواجهة بشأن مستقبل ودور هذه المنظمة في سياق الإطار العام للجهود التي تحشدها قوى العالَم الجديد الصاعدة لإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة، بل الصراع الأشدّ في مجال الإنترنت يتجاوز «الإصلاح» إلى صراع بين مشروع لثورة «الإنترنت الجديد» تماماً، الأوضح فيه حتى الآن مشروع صيني، مقابل محاولة واشنطن والغرب التمسّك بالإنترنت الحالي المهيمن عليه أمريكياً وغربياً، وبالتالي يبدو أنّ وصول أمريكية إلى رئاسة المنظمة المذكورة هو تعبير عن تكثيف واشنطن جهودها لعرقلة مشروع الإنترنت البديل، أي عرقلة ولادة الجديد وليس تطوير القديم.

من بين النقاط اللافتة في المؤتمر الصحفي الذي عقده المرشح الروسي ألكسندر إسماعيلوف قبل التصويت (وكان بمثابة عرض «لبرنامجه الانتخابي») تذكيره بفضيحة برنامج التجسس عبر الإنترنت لوكالة الأمن القومي الأمريكي NSA والمعروف باسم «الموشور» PPRISM والتي كشفها عميل الاستخبارات الأمريكي السابق إدوارد سنودن عام 2013.

ويبدو أن اختيار إسماعيلوف مرشحاً عن روسيا لهذا المنصب، جمع في الوقت نفسه كونه وزير اتصالات سابق في روسيا، وكذلك كان مديراً في عدة شركات اتصالات منها شركة هواوي الصينية، ومن المعروف أنّ هواوي تحديداً كانت أوّل من عرض المشروع الصيني للإنترنت الجديد والمشار إليه بمشروع «المُعرِّف الجديد» New IP، وذلك في إحدى الوثائق الأبكر عن هذا المشروع التي تم تقديمها بشكل محاضرة محفوظة ضمن وثائق الاتحاد الدولي للاتصالات في عام 2019. لتنهال على المشروع خلال الأشهر اللاحقة من ذلك العام وحتى الآن عدة انتقادات ووثائق أمريكية وأوروبية وصلت إلى حدّ «شيطنة» المشروع، إضافة إلى استعمال كثيف للكليشيهات الغربية المعروفة في هذا السياق حول «القمع» و«حقوق الإنسان» وأنّه يتعارض مع مبدأ أن يكون الإنترنت «مفتوحاً وحراً» و«لامركزياً» كما يزعم، وهي المصطلحات التي سوف نعرض في الفقرة التالية حقائق شرحها خبراء تبيّن أن هذه الأوصاف من أكبر الأكاذيب حول الإنترنت القائم حالياً.

جوهر الإنترنت
«المفتوح والحر» المهيمَن عليه أمريكياً

حتى نعرف أهمية إشارة إسماعيلوف إلى سنودن في حديثه، يجب أن نعلم حجم الفضيحة التي فجّرها هذا الأخير منذ حزيران/يونيو ونُشرت في صحف كبرى آنذاك بدءاً من الغارديان وواشنطن بوست، وشكلت بالفعل اكتشاف «لحظة فاصلة في كيفية النظر إلى الإنترنت وحُكمها» كما لاحظ مقال تحليلي مهم مشترك لخبيرَين هندي وبرازيلي نُشر في دورية «مونثلي ريفيو» في تموز/يوليو 2014.

وشرح الخبيران (برابير بوركاياسثا، وريشارب بيلي)، في ذلك المقال تفاصيل مهمة عن كيفية عمل وإدارة شبكة الإنترنت الحالية، والدور الهائل للشركات والدولة الأمريكية في التحكم والسيطرة والرقابة والاختراق للشبكة والتربّح منها. فبالاستعانة بما كشفه سنودن شدّد الخبيران على النتيجة التالية التي تخالف الادّعاءات حول «اللامركزية» و«الحرية»: «الحقيقة هي أنّ الإنترنت أداة مركزية تُستخدم للحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية في عالَم معولَم».

يقبع في رأس هرم التحكم بالإنترنت وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA (التي هي بمثابة الاستخبارات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية) بالتنسيق مع استخبارات حلفائها وخاصةً «المقر البريطاني للاتصالات العامة» GCHQ ومنظمة «العيون الخمس» FIVE EYES وهي «تحالف رقابة فوق قومي تهيمن عليه الولايات المتحدة... أُنشِئتْ عام 1946 بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتم توسيعها لاحقًا إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا».

ويشمل برنامج الرقابة الأمريكي الغربي: «كل طابق من الإنترنت: طابق الاتصالات، سواء على مستوى العمود الفقري للألياف الضوئية أو على مستوى مزوّد خدمة الإنترنت (ISP)، وشركات الإنترنت الكبرى الشريكة لوكالة الأمن القومي الأمريكي، مثل Google وFacebook و Yahoo؛ وشركات البرمجيات مثل Microsoft، التي أتاحت الوصول إلى أنظمة الكمبيوتر لعملائها من خلال الأبواب الخلفية وثغرات الأمان الأخرى؛ وأخيرًا، شركات الأجهزة مثل CISCO وApple وغيرها»، إضافة إلى «جالية تقنية» متورّطة في إضعاف متعمّد لمعايير التشفير في حين يتم تصويرها بأنّها «الحامي المفترض للحرية على الإنترنت».

وعلى عكس الترويج الذي يقلّل من أهمية الجغرافيا في الإنترنت ويركّز على أنها فضاء «أثيري» سابح في الهواء و«سحابات تخزين» لا تنتمي إلى أيّ أرض، يؤكّد الخبيران أنّ السيطرة الأمريكية على الإنترنت يتم تسهيلها إلى حدّ كبير بسبب حقيقة أنّ أراضي الولايات المتحدة تشكّل المحور الرئيسي (فيزيائياً) لشبكة الألياف البصرية العالمية، ثم تليها المملكة المتحدة، حيث يقع جزء كبير من الكابلات عبر المحيط الأطلسي. وبالتالي استخدمت الولايات المتحدة موقعها كمحور عالمي فيزيائي بهذا المعنى لكي تفرض على العالَم شركاتها المشغلة لشبكات الألياف الضوئية والتي تمنح الدولة الأمريكية واستخباراتها إمكانية الوصول المادي إلى شبكاتهم مقابل حصول الشركات على التراخيص الأمريكية اللازمة لكي تعمل وتربح. ومن الفضائح الشهيرة قضية شركة AT&T Folsom Street التي كانت تمنح وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA إمكانية الوصول الفيزيائي إلى شبكة الكابلات الخاصة بها. وبهذا الأساس الفيزيائي يكون الجزء الأكبر من الصوت والصورة والاتصالات عالمياً وبيانات الإنترنت وحركة المرور عبرها تمر في أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، حتى ولو كانت الطريق غير الأقصر جغرافياً، بل لأنها شكلت لسنوات طويلة الطريق الأسرع والأجدى اقتصادياً للشركات العالمية حتى لو كانت مقراتها في بقاع جغرافية أخرى.

«قنابل رقمية» موقوتة مزروعة في الأجهزة

يشرح الخبيران أيضاً بأنّ وكالة الأمن القومي لديها المزيد من الحيل في جعبتها. فيمكن لذراعها المسمّى «مجموعة عمليات الوصول» اختراق أجهزة معيَّنة من خلال البرامج أو حتى «الأجهزة المزروعة». واستطاعت اختراق أجهزة الكمبيوتر عن طريق إدخال أجهزة العبور والتجسس في تصميمات الأجهزة نفسها سلفاً والتي يتم استخدامها بعد ذلك للاستفادة من الأنظمة. وتشير التقديرات إلى أنه كان من الممكن اختراق ما يصل إلى 4 ملايين جهاز بهذه الطريقة. وتصبح هذه الأجهزة المختَرَقة بمثابة عيون ووكلاء لوكالة الأمن القومي، بل وتصبح قادرة بالنيابة عنها أن تشنّ من مواقعها الجغرافية خارج أمريكا هجمات على شبكات أخرى بحيث يتم التستر التام على مصدر الهجمات الرئيسي من وكالة الأمن القومي أو أنّ إدارتها تتم من الأراضي الأمريكية.

وربما كان أخطر جزء مما كشفه سنودن عن الموضوع هو العمليات التي تسمّى «انتهاكات شبكات الكمبيوتر» أو اختصاراً CNEs. وهذه عبارة عن برمجيات مزروعة في شبكات دول أخرى ولديها القدرة ليس فقط على الاستفادة من تدفقات البيانات لهذه الشبكات، بل وكذلك إيقاف هذه الشبكات تماماً، فهي بمثابة «ألغام إلكترونية» تم «تذخيرها» سلفاً ويمكن تفجيرها بضغطة زر. وحتى تاريخ كتابة التحليل المستشهد به عام 2014 كان قد تم الإبلاغ عن 50 ألف انتهاك CNEs من هذا النوع في شبكات الاتصالات العالمية. وتظهر الخريطة التالية المواقع الجغرافية لهذه الانتهاكات ويلاحظ الكاتبان بأنّ هناك «خمس دول ليست لديها CNEs في شبكاتها» ويقصدان «العيون الخمس».

 

img_20221006_204600_724

كيف يدار الإنترنت المهَيمن عليه غربياً؟
وما دور «الاتحاد الدولي للاتصالات»؟

أهمّ الموارد الأساسية للإنترنت تتضمّن: نظام تسمية النطاق (DNS)، والبروتوكولات التي تجعل الإنترنت قابلاً للتشغيل البَيني. وتتألف إدارة الإنترنت، بهذا المعنى الضيق، من متطلبين رئيسيين: صنع السياسات والتوحيد التقني. ويتم وضع السياسات المتعلقة بأسماء النطاقات بشكل شبه كامل من خلال شركة اسمها «شركة الإنترنت لإسناد الأسماء والأرقام» والمعروفة اختصاراً بـ ICANN. ويتم وضع السياسات المتعلقة بعناوين بروتوكول الإنترنت IP في سجلات الإنترنت الإقليمية (RIRs)، ويتم إعداد البروتوكولات في فريق عمل هندسة الإنترنت (IETF). ولكن يتم تنفيذ التخصيص الإجمالي لعناوين IP بواسطة شركة ICANN، والتي تقوم بتعيين مجموعات كبيرة لـ RIRs وتتم إدارة البنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية بموجب القوانين المحلية للبلدان المختلفة.

وهنا يأتي دور الاتحاد الدولي للاتصالات كمنسق عالمي بين هذه الكيانات، ولكن الضغط الغربي والأمريكي يريد عملياً تقليص دور الاتحاد في التنظيم أو الضبط (دور تعطيلي)، بعكس مطالبات الصين وروسيا ودول أخرى.

الإنترنت ومصادرة «المشاعات الرقمية»

 نظام اسم المجال DNS هو أشبه بـ«ملكية عقارية عالية القيمة»، حتى لو كان موجوداً في «العالم الافتراضي». ويمكن في الإنترنت إنشاء عدد غير محدود من «أسماء النطاقات». ولكن في حين يفترض أن تكون هذه الأسماء جزءاً من «المشاعات» العالمية غير المحدودة، لكن تم منح صلاحيات لشركة ICANN للتحكم في مساحة DNS بسبب قيام الولايات المتحدة بالاستيلاء على المشاعات الرقمية وتسليم إدارتها إلى شركة ICANN.

واستعمل الخبيران الهندي والبرازيلي اللذان شرحا هذه الفكرة تعبير أنّ ما تم القيام به هو عملية «تسييج» enclosure لهذه المشاعات، وهو المصطلح نفسه الذي عبّر تاريخياً عن العمليات الوحشية لانتزاع مشاعات الأراضي وملكيات الفلاحين وصغار الكادحين خلال عملية «التراكم البدئي لرأس المال» التي شرحها كارل ماركس في «رأس المال».

 لقد سمح تطوير نظام DNS من قبل الولايات المتحدة (وسيطرتها على النظام من خلال التحكم في الخادم الرئيسي المعتمد) بتضمين هذه المشاعات العالمية بحكم ميزة حصرية تاريخية.

 وما يعزز فكرة أنّ الإنترنت الحالي قد لا ينفع «إصلاحه» بل يحتاج «تثويره» بإنترنت جديد، هو حقيقة أنه في الوقت الحالي لا يوجد إطار يمنح الحقوق القانونية لنطاقات المستوى الأعلى العالمية (المسماة g-TLD’s) – لأيّ أحد من السجلات الإقليمية أو الوطنية الأخرى، باستثناء الولايات المتحدة والشركات المهيمنة عليها عملياً، حيث يتم اشتقاق جميع الحقوق القانونية من خلال العقود الخاصة مع شركة ICANN، وهناك ثلاثة عشر خادمًا جذريًا مع خادم «مخفي» أو «رئيسي» يقوم بتحديث جميع الخوادم الجذرية الثلاثة عشر العامّة. وتعمل هذه الخوادم معًا كـ«مستودع مركزي» لدفتر عناوين الإنترنت.

يتم تشغيل الخادم الرئيسي بواسطة شركة VeriSign Inc. (المعروفة سابقًا باسم NetworkSolutions Inc)، وهي ليست سوى شركة خاصة لإشراف ICANN، وبالتالي في نهاية المطاف خاضعة لوزارة التجارة الأمريكية. وليس أدل على ذلك من أنّ البروتوكول الحالي لتعديل ما يسمى «ملف المنطقة الجذري» هو عبر تقديم طلب لشركة ICANN التي تقوم بدورها بإعادة توجيهه إلى وزارة التجارة الأمريكية للموافقة عليه أو رفضه. وإذا وافقت الوزارة الأمريكية على الطلب تقوم بالسماح لشركة VeriSign بتحرير وإنشاء ملف «النطاق الجذري» الجديد.

 لن تستمر البلدان
بقبول إنترنت يستطيع شطبها من العالَم الافتراضي

تعتبر السيطرة أحادية الجانب على نظام DNS من قبل الولايات المتحدة بلطجة صريحة لعدد كبير من الأسباب، منها أنّ الحكومة الأمريكية تستطيع التحكم بإنشاء وحذف «الممتلكات» عبر الإنترنت. لقد رأينا أمثلة على قيام الحكومة الأمريكية أو القضاء الأمريكي بإجبار السجلات في جميع أنحاء العالم على حذف أسماء نطاقات بلدان بأكملها من نظام العناوين. هذا ما حدث، على سبيل المثال مع الامتداد الرقمي على الشبكة لدولة العراق «.iq» قبل الغزو الأمريكي لهذا البلد. واليوم يسرّع من ضرورة التغيير العقوبات الأمريكية بما فيها الرقمية ضدّ روسيا والصين.

 هذا غيض من فيض من التفاصيل التقنية والإدارية والتي تجعل تغيير الإنترنت الحالي جذرياً أمراً ضرورياً ومعركة كبرى يجب على العالَم الوليد الناشئ على أنقاض العالَم أحادي القطب، أن يضطلع بها ويخوضها حتى النهاية.

آخر تعديل على الخميس, 06 تشرين1/أكتوير 2022 23:02