قُبرص... حلقة السلام المفقود
كانت مشكلة قُبرص - وفي الواقع لا تزال كذلك - مشكلةً استعماريّة، إذ عمل الغرب جاهداً على تحييد الجزيرة من عملية إنهاء الاستعمار لسبب واحد؛ كونها أهم صِلَةٍ أساسيّةٍ بين الغرب والشرق الأوسط، وأثمن موقعٍ استراتيجيٍّ في شرق البحر الأبيض المتوسط، إذ قال رئيس الوزراء البريطاني بينجامين دزرائيلي آنذاك، عندما استولت بلاده على قُبرص في عام 1878: «لقد حصلنا على الحلقة المفقودة».
على شفير المواجهة
باتت الأوضاع في قُبرص على شفير المواجهة وذلك على خلفيّة تصعيد الولايات المتحدة الأخير، حيث أعلنت في منتصف شهر أيلول الماضي، تمديدها القرار المُتخذ في أيلول 2020 بشأن رفع حظر توريد الأسلحة إلى قُبرص لمدة عام خلال السنة الماليّة 2023، ما أدى لإعلان أنقرة زيادة تواجدها العسكريّ وتوريد الأسلحة إلى شمالي الجزيرة، إذ ذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حديث لقناة «CNN» التركيّة أنّ «بلاده ستعزز وجودها العسكريّ في شمالي قُبرص بعد أنْ رفعت الولايات المتحدة القيود التجاريّة الدفاعيّة المفروضة على قُبرص، بما يتعذّر تفسيره في المحتوى والتوقيت»، لتمتد ساحة المواجهة التركيّة اليونانيّة في بحر إيجة وشرق المتوسط لتشمل جزيرة قُبرص، في ظلّ سباق تسلُّح بين شطري الجزيرة من الطرفين التركيّ واليونانيّ كان لواشنطن الدور الأهم في إشعال فتيله، و«التخلي عن سياسة الحياد والتوازن في قضيَّتي قُبرص وبحر إيجه لصالح اليونان» وفقاً لوزير الخارجية التركي جاويش أوغلو الذي سأل نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن عن سبب رفع الولايات المتحدة الحظر عن قُبرص في أحد لقاءاتهما، ليأتي الرد من بلينكن بأنّها مكافأة لدور قُبرص في التعاون مع الأمريكيين بمسألة مكافحة تبييض الأموال، وهنا، بحسب أوغلو، سأله «ألم يكن لدى الولايات المتحدة مكافأة أخرى غير السلاح»؟!
الحليف القديم
ينطوي الخلاف بين تركيا واليونان على مجموعة من القضايا، بما في ذلك ترسيم حدود المياه الإقليميّة والجُّرف القاريّ والمنطقة الاقتصاديّة الخالصة والمجال الجويّ في هذه المنطقة، ووضع الجزر في بحر إيجه، والوضع منزوع السلاح لبعض الجزر بالإضافة لقضية قُبرص، حيث طالبت تركيا اليونان بنزع السلاح من جزرها الشرقية وفقاً لمعاهدة لوزان لعام 1923 ومعاهدة باريس لعام 1947، والتي بموجبها استلمت اليونان مجموعة من الجزر متعهدةً بعدم السماح بعسكرتها، في حين أنّ السلطات اليونانية رفضت الطلب ووصفته بأنه «سوء تفسير متعمّد» للمعايير القانونيّة الدوليّة متهمةً حليفها في الناتو بتكثيف الأنشطة العدائيّة في شرق البحر المتوسط.
إلا أنّ حِدة المواجهة بين البلدين اكتسبت زخماً مُضاعفاً مع تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، فقد تم مؤخراً إضفاء الطابع الرسمي على التحالف العسكري «الجديد» في شرق المتوسط من خلال اتفاقيّة الدعم العسكري طويل الأجل بين الولايات المتحدة واليونان، إذْ صادق البرلمان اليوناني في 12 أيّار الفائت على الاتفاقيّة والتي تنص على إقامة أربع منشآت عسكريّة أمريكيّة إضافيّة، وفيما تُثمّن أثينا موقف واشنطن عالياً لم تأخذ في حسبانها التحوّلات في موقف الأخيرة تجاه الدول التابعة لها وحتى تجاه التزاماتها بالاتفاقيات الدولية، وما موقف واشنطن -بجعل اليونان «حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة على الجانب الجنوبي الشرقي من الناتو» بدلاً من الحليف القديم - إلا مثالٌ صارخٌ على هذا التغيير.
موطئ قدم
بناءً على طلب واشنطن، تعمل الدول الغربيّة، لا على تكثيف الأزمة في العلاقات مع أنقرة من خلال فرض المزيد من العقوبات ضدها فحسب، بل وتصعيد حِدّة الصراع والاتجاه به نحو العنف، وذلك في إطار سعيها العام لخلق وإعادة إحياء بؤر التوتر ضمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ من جهة، وإيضاح مدى «ضراوة معارضة التيار الأمريكي» للدول الأوروبيّة من جهة أخرى، عبر كبح «المثال التركي» والضغط عليه بسبب اتباع سياساتٍ مُستقلّةٍ نسبياً عن واشنطن وبروكسل - التي كان آخرها نيّة أنقرة في أنْ تصبح عضواً كامل العضويّة في منظّمة شنغهاي للتعاون - وذلك عبر توجيه الاتحاد الأوروبي العقوبات ضد المسؤولين ورجال الأعمال الأتراك، الذين مُنِع العديد منهم من دخول الاتحاد بينما تمّ تجميد أُصولهم الأوروبيّة، و فرض قيود على الروابط الجويّة الروسيّة-التركيّة، وزيادة الضغط على البنوك التركيّة التي تدعم نظام الدفع «مير» الروسيّ، ليتم توسيع مجال الضغط مؤخراً ليشمل التسخين الصارخ للتوترات اليونانيّة-التركيّة في شرق المتوسط.
من خلال إدراكهم حقيقة أنّ الانضمام إلى مُنظّمة شنغهاي من شأنه أنْ يعمل على تحسين علاقات تركيا مع دول المُنظّمة وتشكيل «موقف مختلف تماماً» لتركيا - والذي بدأ تشكّله عَملياً في غرفة انتظار عضويّة الاتحاد الأوروبي – من خلال ذلك عملت واشنطن عبر برلين لردع أيّ موقفٍ مُستقلّ من جانب أنقرة، وبحسب تقارير وسائل الإعلام الألمانية فقد اقترح مُمثّل السياسة الخارجيّة في البوندستاغ يورغن تريتين، في 19 أيلول، «التفكير في فرض عقوبات اقتصادية ضد تركيا» لمحاولاتها كسب موطئ قدم في مُنظّمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة لعرقلة مُراقبة حلف شمال الأطلسي لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا، والهجمات على أثينا والرغبة في التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصاديّة الخالصة لليونان، فإنّ الإجابة على كلّ هذا، كما يعتقد تريتين يجب أنْ تكون «سياسة قوية من قِبل الغرب الجماعي تجاه تركيا».
قنابل دخانيّة
إنّ تصعيد مُجريات الأزمة الحاليّة يعني رسالةً من الغرب الجماعي وبالأخص الولايات المتحدة لتركيا، بأنّه لا يوجد حلّ ضمن أيّ إطار تفاوضي ما لم تقدّم تركيا تنازلات فيما يخصّ علاقتها مع روسيا تحديداً، واضعةً اليونان وقبرص كرأس حربة في مواجهة تركيا، هذا التصعيد الجاري وضمن مُجمل التوترات والصراعات في المنطقة يجري في ظل انسحاب الولايات المتحدة السريع منها، والتي تحاول من خلاله خلط الأوراق في شرق المتوسط بهدف تصعيد الفوضى بين دول المنطقة وإحياء الشقوق والفوالق فيها، هذه الفوضى التي تعمل «كالقنابل الدخانيّة» لتغطية تراجعها في المنطقة وتسيير الأمور كما لو كان الأمريكي حاضراً، إلى الحد الذي يسمح بعرقلة الحضور القوي للقوى الدولية الصاعدة ومشاريعها، كمُنظّمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الاقتصاديّ الأوراسيّ، والتي قد راكمت تجارب كافية في استراتيجيّة إطفاء الحرائق وتأريض التوترات ووضع حد لمشروع الفوضى الأمريكي بمختلف أشكاله وتجليّاته، والتي لن تكون منطقة شرق المتوسط بكافة تحدياتها عصيةً على إيجاد تجارب مماثلة.