نص كلمة بوتين اليوم بشأن الاستعمار الجديد ونهاية الأحادية القطبية
ترجمة قاسيون ترجمة قاسيون

نص كلمة بوتين اليوم بشأن الاستعمار الجديد ونهاية الأحادية القطبية

ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاباً مطوّلاً اليوم الجمعة 30 أيلول/سبتمبر 2022 في الكرملين (قاعة جورجيفسكي)، حيث أقيم احتفال لتوقيع الاتفاقيات الخاصة بقبول روسيا لانضمام جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية، ومنطقة زاباروجيا ومنطقة خيرسون إلى دولة روسيا الاتحادية (وبحضور قادة المناطق الأربع)، بعد نتائج الاستفتاءات الشعبية على ذلك من شعوب هذه المناطق.

وكان لافتاً تركيز بوتين لمعظم خطابه على انتقاد الممارسات الاستعمارية القديمة والجديدة للنخب الغربية ونهبها للعالَم تاريخياً وحاضراً، وأن ما يجري اليوم هو نهاية هذا العالَم أحادي القطب إلى غير رجعة، لافتاً إلى أهمية تعاون شعوب العالم في الوقوف بوجه هذه الهيمنة فيما وصفها بأنها «حركة التحرُّر المناهضة للاستعمار، وضدّ الهيمنة أحادية القطب التي تتطوّر بالفعل داخل أكثر البلدان والمجتمعات تنوعاً... وستكون القوة التي ستحدّد الواقع الجيوسياسي في المستقبل».

فيما يلي ترجمة «قاسيون» لنصّ ذلك الجزء المتعلّق بهذا الموضوع في خطاب بوتين اليوم (والذي شكّل معظم خطابه) نقلاً عن اللغة الروسية من موقع الخدمة الصحفية للكرملين:

 الغرب يحاول الحفاظ على نظامه الاستعماري الجديد

إنّ الغرب مستعد لتخطي كل شيء من أجل الحفاظ على النظام الاستعماري الجديد الذي يسمح له بالتطفل، وواقعياً، بنهب العالم من خلال قوة الدولار والإملاءات التكنولوجية، وفرض جزية حقيقية على البشرية، واستثمار المصدر الرئيسي للازدهار غير المكتسب، ألا وهو ريع الهيمنة. 

إنّ الحفاظ على هذا الريع هو دافعهم الرئيسي الحقيقي، والأناني بالمطلق. وهذا هو السبب في أن مصلحتهم تكمن في الانتزاع الكامل للسيادة، من هنا تأتي عدوّانيتهم تجاه الدول المستقلة، والقيم التقليدية والثقافات الأصلية، وفي تقويض العمليات الدولية والتكاملية الخارجة عن سيطرتهم، والعملات العالمية الجديدة، ومراكز التطور التكنولوجي، ليصبح من الأهمية بمكان بالنسبة لهم أن تتخلى جميع الدول عن سيادتها للولايات المتحدة الأمريكية.

توافق النخب الحاكمة في بعض الدول حول العالم طواعية على القيام بذلك، وتوافق طواعية على أن تصبح تابعة، بينما يتم رشوة الآخرين وترهيبهم. وإذا لم ينجح الأمر، فإنهم يدمرون دولاً بأكملها، تاركين وراءهم كوارث إنسانية، ومآسي، وأنقاضاً، وملايين من المصائر البشرية المدمَّرة والمشوَّهة، والجيوب الإرهابية، ومناطق الكوارث الاجتماعية، والمحميات، والمستعمرات، وأشباه المستعمرات. إنهم لا يهتمّون بكل ذلك، طالما سيحصلون على مصلحتهم الخاصة. 

أودّ التأكيد مرة أخرى على السبب الحقيقي في الحرب الهجينة التي يشنها «الغرب الجماعي» ضدّ روسيا، ألا وهو الجشع تحديداً، والحفاظ على قوتهم غير المحدودة، فهم لا يريدون لنا الحرية، لكنهم يريدون رؤيتنا كمستعمَرة، إنهم لا يريدون تعاوناً نِدّياً، وإنما يريدون السَّرقة، هم لا يريدون رؤيتنا كمجتمعٍ حر، وإنما كحشدٍ من العبيد بلا روح.

 إنّ التهديد المباشر بالنسبة لهم هو فكرُنا وفلسفتنا، وبالتالي فهم يتعدّون على فلاسفتنا، إذْ إنّ ثقافتنا وفنَّنا خطرٌ عليهم، لذلك يحاولون مَنعها. تنميتنا وازدهارنا يشكّلان أيضاً تهديداً لهم، فالمنافسة آخذةٌ في الازدياد، هم لا يحتاجون إلى روسيا على الإطلاق، أما نحن فنحتاجها.

 أودّ أن أذكّركم بأنّ الادّعاءات بالسيطرة على العالم في الماضي قد تحطّمت أكثر من مرّة بسبب شجاعة وعزيمة شعبنا، وستظلّ روسيا دائماً هي روسيا، وسنواصل الدفاع عن قيمنا ووطننا الأم.

 إنّ الغرب يعتمد على الإفلات من العقاب، والإفلات من كل شيء. في الواقع، هذا ما كان يجري حتى الآن، فالاتفاقات في مجال الأمن الاستراتيجي تذهب إلى سلة المهملات، إعلان عدم صحة الاتفاقات التي تم التوصل إليها على أعلى المستويات السياسية، والوعود الصارمة بعدم توسيع «الناتو» شرقاً، أصبحت خدعة قذرة، بمجرّد أنْ صدَّقها زعماؤنا السابقون، أما معاهدات الدفاع المضاد للصواريخ والصواريخ متوسطة وقصيرة المدى فقد تمّ خرقُها من جانب واحد تحت ذرائع واهية.

 وكلّ ما نسمعه من جميع الأطراف هو أنّ «الغرب يؤيّد النظام على أساس القواعد»، أين تلك القواعد؟ ومَن رأى تلك القواعد؟ ومَن وافق عليها؟ صدّقوني إنها ليست سوى مجرّد نوعٍ من الهراء، والخداع المطلق، والمعايير المزدوجة أو الثلاثية بالفعل! إنها مصمَّمة فقط للحمقى.

إنّ روسيا قوةٌ عظمى عمرها ألف عام، وهي دولة حضارة، ولن تعيش بمثل هذه القواعد الخاطئة المزوَّرة.

 إنّ ما يسمى بالغرب هو الذي داس على مبدأ حرمة الحدود، والآن يقرّر، وفقاً لتقديره الخاص، مَن له الحقّ في تقرير المصير، ومَن لا يستحقه. لماذا قرّروا ذلك، ومن أعطاهم الحق؟ غير واضح. هم منحوا هذا لأنفسهم.

 لهذا كان اختيار السكّان في شبه جزيرة القرم، وسيفاستوبول، ودونيتسك، ولوغانسك، وزابوروجيه، وخيرسون يسبّب لهم غضباً شديداً. إلا أنّ الغرب ليس له أي حق أخلاقي في تقييم ذلك، ولا حق له في أن يتلعثم متحدّثاً عن الحرية والديمقراطية. لا ولم يكن له أبداً!

عن الاستبداد الغربي وفرض النيوليبرالية

إنّ النخب الغربية لا تنكر السيادة الوطنية والقانون الدولي فحسب، بل وتتّخذُ هيمنتُهم عليهما طابعاً واضحاً من الشمولية والاستبداد والفصل العنصري، فهم يقسّمون العالم بوقاحة إلى أتباعهم، أو ما يسمَّى بالدول المتحضّرة، ثم إلى بقية العالم، الذين، وفقاً لخطة العنصريّين الغربيّين اليوم، ينبغي أنْ يضافوا إلى قائمة البرابرة والمتوحشين. حتى تسمياتهم كاذبة: «دولة مارقة»، «نظام استبدادي»، نماذج جاهزة لوصم شعوبٍ ودولٍ بأكملها، ولا يوجد شيءٌ جديد في هذا، فالنخب الغربية كانت وستظل دوماً هكذا: مستعمرون، يميّزون ويقسّمون الشعوب إلى أصناف «أولى» و«أخرى».

لمْ ولنْ نقبلَ مثل هذه القومية السياسية والعنصرية، وماذا يمكن أنْ يُطلَق على «الروسوفوبيا» (رهاب الروس) غير أنّها توجُّهٌ عنصري، ينتشر الآن في جميع أنحاء العالم؟ ما هي، إنْ لم تكن العنصرية، والاقتناع القاطع للغرب بأنّ حضارته وثقافته النيوليبرالية هي النموذج الذي لا جدال فيه للعالم بأسره؟ «مَن ليس معنا فهو ضدنا». كم يبدو هذا كله غريباً.

حتى التوبة عن جرائمهم التاريخية يتم تحويلها من قِبل النخب الغربية إلى شمّاعة الآخرين، مطالبين مواطني بلدانهم والشعوب الأخرى بالاعتراف بما لا علاقة لهم به على الإطلاق، على سبيل المثال، في فترة الفتوحات الاستعمارية.

نهب الاستعمار القديم والجديد لروسيا وبلدان العالَم

يجدر تذكير الغرب بأنه قد بدأ سياسته الاستعمارية في العصور الوسطى، ثم أتبعها بتجارة الرقيق العالمية، والإبادة الجماعية للقبائل الهندية في أمريكا، ونهب الهند، وإفريقيا، وحروب إنكلترا وفرنسا ضد الصين، والتي بنتيجتها، اضطرّت الصين إلى فتح موانئها لتجارة الأفيون. إنّ ما فعلوه هو وضع أممٍ بأكملها تحت أَسر المخدرات، وتعمّدوا إبادة مجموعات عرقية بأكملها من أجل الأرض والموارد، وقاموا بمطاردة حقيقية للناس كأنهم حيوانات. إنه أمرٌ مخالفٌ لطبيعة الإنسان والحقيقة والحرية والعدالة.

أما نحن، فنفتخر بأنّ بلادنا قادت الحركة المناهضة للاستعمار في القرن العشرين، وفتحت الفرص لعدد من شعوب العالم للتطور من أجل الحدّ من الفقر وعدم المساواة، والتغلب على الجوع والمرض.

أؤكد أنّ أحد أسباب «الروسوفوبيا» منذ قرون، والحقد السافر لهذه النخب الغربية تجاه روسيا، هو بالتحديد أننا لم نسمح لهم بنهبنا خلال فترة الفتوحات الاستعمارية، بل أجبرنا الأوروبيين على التجارة معنا على أساس المنفعة المتبادلة. لقد تم تحقيق ذلك من خلال إنشاء دولة مركزية قوية في روسيا، طوّرت وعززت نفسها على أساس القيم الأخلاقية العظيمة للأرثوذكسية والإسلام واليهودية والبوذية، وعلى أساس الثقافة الروسية والكلمة الروسية المفتوحة للجميع.

من المعروف أنّ خطط التدخل في روسيا قد تم وضعها مراراً وتكراراً، وحاولوا استخدام كل الأوقات المضطربة في بداية القرن السابع عشر، وفترة الاضطرابات بعد العام 1917، وفشلوا. ومع ذلك، فقد تمكن الغرب من الاستيلاء على ثروة روسيا في نهاية القرن العشرين، عندما تم تدمير الدولة. عندها وصفونا بأصدقاء وشركاء، لكنهم في الحقيقة عاملونا كمستعمَرة، حينما تم سحب تريليونات الدولارات من البلاد بموجب مجموعة متنوعة من المخطّطات. كلنا نتذكر كلّ شيء، لم ننسَ أيّ شيء.

اليوم، قال المواطنون في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيه كلمتهم، لصالح استعادة وحدتنا التاريخية. شكراً لكم!

لقد دأبت الدول الغربية منذ قرون على تكرار أنها تجلب الحرية والديمقراطية للشعوب الأخرى. كل شيء هو عكس ذلك تماماً: فبدلاً من الديمقراطية يجلبون القمع والاستغلال، بدلاً من الحرية يجلبون الاستعباد والعنف، فالنظام العالمي أحادي القطب بأكمله هو بطبيعته مناهضٌ للديمقراطية وليس حرّاً، إنه مخادِع وكاذبٌ حتى النُّخاع.

والولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت الأسلحة النووية مرَّتين، ودمَّرت هيروشيما وناغازاكي اليابانيَّتَين. بالمناسبة، كانوا هم مَن وَضع السابقة الأولى.

اسمحوا لي أيضاً بتذكيركم بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية، جنباً إلى جنب مع البريطانيين، هم من حوّلوا دريسدن وهامبورغ وكولن وعدداً من المدن الألمانية الأخرى إلى أطلال دون أيَّ ضرورة عسكرية، خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تم ذلك بتحدٍّ، وأكرّر، دون أيّ ضرورة عسكرية. كان ذلك لهدف واحد فقط: كما في حالة التفجيرات النووية في اليابان، لترهيب كلّ مِن بلدنا والعالم بأسره. 

لقد تركت الولايات المتحدة الأمريكية بصمةً رهيبة في ذاكرة شعبَي كوريا وفيتنام من خلال القصف الوحشي الهَمجي، واستخدام النابالم والأسلحة الكيماوية.

وحتى الآن، تحتل الولايات المتحدة الأمريكية ألمانيا واليابان وجمهورية كوريا ودولاً أخرى، في الوقت نفسه الذي تسمّيهم بشكل ساخر «حلفاء متساوين». فعن أيّ تحالف يدور الحديث؟ إن العالم أجمع يعرف أنّ قادة هذه الدول يخضعون للمراقبة، وأعلى القيادات في هذه الدول يُركَّب لهم أجهزة تنصّت عليهم، ليس فقط في مكاتبهم، وإنما في مبانيهم السكنية. إنّه العار الحقيقي، عارٌ على أولئك الذين يفعلون هذا، وعلى أولئك الذين يبتلعون مثل هذه الوقاحات بصمت وخنوع، مثل العبيد.

إنهم يسمّون الأوامر والصياح الفظّ والمُهين الذي يوجّهونه لأتباعهم بـ«التضامن الأوروبي-الأطلسي»، ويسمّون تطوير الأسلحة البيولوجية والتجارب على البشر الأحياء، بما في ذلك في أوكرانيا، بـ«الأبحاث الطبية النبيلة».

بسبب سياساتهم المدمرة بالتحديد، وحروبهم ونهبهم، تسبّبوا في زيادة هائلة في تدفقات الهجرة اليوم، حيث يعاني ملايين الأشخاص من الحرمان وسوء المعاملة ويموتون بالآلاف في محاولاتهم الوصول إلى أوروبا ذاتها.

الآن يقومون بتصدير القمح من أوكرانيا، فإلى أين يتجه بحجة «توفير الأمن الغذائي لأفقر دول العالم»؟ أين تذهب تلك الشحنات؟ كلّ شيء يذهب إلى تلك البلدان الأوروبية نفسها. تذهب إلى هناك، بينما 5% فقط ذهبت إلى أفقر دول العالم. مرة أخرى خداعٌ آخر وكذبٌ صريح.

إنّ النخبة الأمريكية، في واقع الأمر، تستخدم مأساة هؤلاء الناس لإضعاف منافسيها، لتدمير الدول القومية. ينطبق هذا أيضاً على أوروبا، وينطبق أيضاً على هوية فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول ذات التاريخ الطويل.

تطالب واشنطن بمزيد ومزيد من العقوبات ضد روسيا، ويوافق معظم السياسيين الأوروبيين بخنوع على ذلك، بينما يفهمون بوضوح أنّ الولايات المتحدة، تدفع - من خلال تخلي الاتحاد الأوروبي الكامل عن حوامل الطاقة الروسية والموارد الأخرى - إلى تراجع التصنيع في أوروبا، والاستيلاء على السوق الأوروبية بالكامل، فهم يفهمون كل شيء، النخب الأوروبية تفهم كل شيء، إلا أنهم يفضلون خدمة مصالح الآخرين. لم يعد هذا مجرد خنوع، بل هو خيانة مباشرة لشعوبهم. لكن فلتصحبهم بركة الله، هذا شأنهم.

التحوّل من العقوبات إلى التخريب المباشر

لكن العقوبات ليست كافية بالنسبة للأنغلوساكسون، فقد تحوّلوا إلى التخريب، أمرٌ لا يصدق، لكنه حقيقي، فتنظيمهم للتفجيرات على خطوط أنابيب الغاز الدولية «السيل الشمالي»، التي تمتد على طول قاع بحر البلطيق، يعني البدء الفعلي لتدمير بنية الطاقة التحتية لأوروبا. وأصبح واضحاً مَن المستفيد من ذلك، وأيّاً كان المستفيد، فهو مَن فعلها.

إنّ إملاءات الولايات المتحدة الأمريكية تقوم على القوّة الغاشمة، على قانون القبضة. أحياناً ما يتمّ تغليفها على نحو جميل، وأحياناً لا يتم تغليفها بالمرّة، إلا أنّ الجوهر نفسه هو قانون القبضة. ومن هنا جاء نشر وصيانة مئات القواعد العسكرية في جميع أنحاء العالم، وتوسّع حلف «الناتو»، ومحاولات لتشكيل تحالفات عسكرية جديدة مثل «أوكوس» وما شابه. كما يجري الآن العمل النشط لإنشاء رابط عسكري سياسي بين واشنطن وسيئول وطوكيو، أما الدول التي تمتلك أو تسعى لامتلاك سيادة استراتيجية حقيقية وقادرة على تحدي الهيمنة الغربية فيتم إدراجها تلقائياً في فئة الأعداء.

استناداً إلى تلك المبادئ، تُبنَى العقيدة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية و«الناتو»، ولا تطلب شيئاً أقلّ من الهيمنة الكاملة، بينما تقدّم النخب الغربية خططَها الاستعمارية الجديدة بالنفاق نفسِه، حتى مع التظاهر بالسلام، إلا أنها تتحدّث عن نوع من الاحتواء، وتتجوّل مثل هذه الكلمة الماكرة من استراتيجية إلى أخرى، لكنها في الواقع تعني شيئاً واحداً فقط: تقويض أيّ مراكز لتنمية سيادية.

لقد سمعنا بالفعل عن احتواء روسيا والصين وإيران. أعتقد أنّ دولاً أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى الشركاء والحلفاء الحاليين للولايات المتحدة الأمريكية، هي التالية في الدَّوْر. نحن نعلم أنهم يفرضون أيضاً عقوبات على حلفائهم، أيّاً كان ما لا يحبونه، أولاً ضد أحد البنوك، ثم ضد بنك آخر، الآن ضد شركة، ثم ضد شركة أخرى. إنها الممارسة نفسها، التي سوف تتوسع، فهم يستهدفون الجميع، بما في ذلك أقرب جيراننا، بلدان رابطة الدول المستقلة.

في الوقت نفسه، أصبح من الواضح أن الغرب كان يفكر بالتمنّي منذ فترة طويلة، ولهذا، وعند بدء حرب خاطفة ضد روسيا، اعتقدوا أنهم سيكونون قادرين مرة أخرى على بناء العالم بأسره تحت قيادتهم. ولكن، وكما اتضح فيما بعد، فإنّ مثل هذا الاحتمال الوردي لم يثر الجميع، ربما أثار بعض المازوخيين السياسيين والمعجبين بأشكال العلاقات الدولية غير التقليدية الأخرى، ولكن معظم الدول رفضت «ابتلاع» ذلك، واختارت طريقاً معقولاً للتعاون مع روسيا.

من الواضح أنّ الغرب لم يتوقّع منهم هذا التمرّد، فقد اعتادوا على التصرف وفقاً للقالَب، وأخذوا كل شيء بوقاحة من خلال الابتزاز والرشوة والتخويف، وإقناع أنفسهم بأن هذه الأساليب ستنجح للأبد، كما لو كانت متحجّرة ومتجمّدة في الماضي.

إنّ هذه الثقة بالنفس هي نتاجٌ مباشر ليس فقط للمفهوم سَيِّئ السمعة لـ«استثنائية» الغرب، على الرغم من أنّ هذا الأمر بالطبع مثيرٌ للدهشة، ولكن أيضاً بسبب «شح المعلومات» الحقيقي في الغرب. فقد أغرقوا الحقيقة في محيط من الأساطير والأوهام والأخبار المزيَّفة، مستخدمين دعايةً شديدة العدوانية، فأصبحوا يكذبون بفجاجة، مثل غوبلز. وكلما كانت الكذبة عصيَّةً على التصديق، كلما أسرعوا في تصديقها، وأصبحت تلك هي الطريقة التي يتصرّفون بها، وفقاً لهذا المبدأ.

لا يمكن إطعام الناس وتدفئتهم «بقطع ورق»
الدولار واليورو المتضخّمَين

لكنك لا تستطيع إطعام الناس بالدولار واليورو المطبوع، ومن المستحيل إطعام البشر بهذه القطع من الورق، ومن المستحيل تدفئة المنازل باستخدام الرَّسمَلة الافتراضية المتضخّمة لشبكات التواصل الاجتماعي الغربية. كلّ هذا مهمّ، إلا أنّ ما أتحدّث عنه هو أنك لن تتمكن من إطعام أيّ شخص بالنقود الورقية، فأنت بحاجة إلى طعام، ولن تقوم بتدفئة أي شخص بهذه الأحرف الكبيرة المتضخمة أيضاً، فأنت بحاجة إلى حوامل الطاقة.

لهذا، أصبح واجباً على السياسيين في أوروبا إقناع مواطنيهم بتناول كميات أقل، والاغتسال مرّات أقل، وارتداء ملابس أكثر دفئاً في المنزل، أما الذين أخذوا يطرحون أسئلة عادلة: «لماذا يحدث هذا في الواقع؟» فيتمّ وَصمُهم على الفور بالأعداء والمتطرفين والراديكاليين. ويجعلون من روسيا شمّاعة لأخطائهم، فيقولون: ها هو مصدر كلّ مشاكلكم. مرة أخرى يكذبون.

 ما أريد التأكيد عليه هو أنّ كلّ الأسباب أصبحت موجودة للاعتقاد بأنّ النخب الغربية لن تبحث عن طرق بنّاءة للخروج من أزمة الغذاء والطاقة العالمية، التي نشأت من خلال خطأهم، وبالتحديد من خلال خطاياهم، نتيجة سنوات عديدة من سياساتهم قبل وقت طويل من عمليتنا العسكرية الخاصة في أوكرانيا، في دونباس. إنهم لا ينوون حلّ مشكلات الظلم وعدم المساواة، وأخشى أنّهم سيستخدمون بالأحرى وصفات أخرى مألوفة لديهم.

وهنا يجدر التذكير بأنّ الغرب خرج من تناقضات أوائل القرن العشرين من خلال الحرب العالمية الأولى، ثم سمحت أرباح الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة الأمريكية بالتغلب أخيراً على عواقب الكساد الكبير، وأن تصبح أكبر اقتصاد في العالم، لفرض قوة الدولار كعملة احتياطية عالمية. وحينما تفاقمت الأزمة الأخيرة في ثمانينيّات القرن الماضي، تغلّب الغرب عليها إلى حد كبير من خلال الاستيلاء على إرث وموارد الاتحاد السوفييتي، الذي كان ينهار ثم انهار في نهاية المطاف. تلك حقيقة.

الآن، ومن أجل تخليص أنفسهم من مجموعة متشابكة أخرى من التناقضات، يحتاجون إلى كسر روسيا وغيرها من الدول التي تختار مسار التنمية السيادي، بأيّ ثمن من أجل نهب ثروات الآخرين بشكل أكبر وحلّ التناقضات وسدّ الثغرات على حسابها. وإذا لم يحدث ذلك، فأنا لا أستبعد أنهم سيحاولون تدمير النظام بأكمله، حيث يمكن إلقاء اللوم على كل شيء، أو، لا قدَّرَ الله، استخدام الصيغة المعروفة أنّ «الحرب ستتكفل بكل شيء».

إنّ روسيا تتفهَّم مسؤوليّتها تجاه المجتمع الدولي، وستبذل قصارى جهدها لإعادة هؤلاء المتهوّرين إلى رشدهم.

من الواضح أنّ النموذج الاستعماري الجديد الراهن محكومٌ عليه بالفشل في نهاية المطاف، لكني أكرّر أنّ أصحابه الحقيقيين سوف يتشبّثون به حتى النهاية، فليس لديهم ببساطة ما يمكن أن يقدّموه للعالَم غير الحفاظ على نظام النهب والابتزاز ذاته.

في الواقع، هم يبصقون على الحق الطبيعي لمليارات البشر، معظم البشرية، في الحرية والعدالة، وعلى حقّهم في تقرير مستقبلهم بأنفسهم. الآن انتقلوا تماماً إلى الإنكار المتطرّف للمعايير الأخلاقية والدين والأسرة.

دعونا نجيب على بعض الأسئلة البسيطة لأنفسنا، وأودّ العودة هنا إلى ما قلته، مخاطباً جميع مواطني بلدنا، ليس فقط للزملاء الموجودين في القاعة، وإنما جميع مواطني روسيا: هل نريد، هنا في بلادنا، في روسيا، أن نطلق على الأم والأب، «الوالد رقم 1» و«رقم 2» و«رقم 3» (لقد فقدوا رشدهم تماماً هنا بالفعل!)؟ هل نريد حقاً أن تُفرَضَ الانحرافات التي تؤدي إلى التدهور والانقراض على الأطفال في مدارسنا من الصفوف الابتدائية؟ أنْ يتم إحاطتُهم علماً بأنه من المفترض أنْ تكون هناك أجناس أخرى غير النساء والرجال، وأنْ تُعرَضَ عليهم عمليةُ تغيير الجنس؟ هل نريد كلّ هذا لبلدنا وأطفالنا؟ بالنسبة لنا، كلّ هذا غير مقبول، فلدينا مستقبلٌ مختلف.

أكرّر أنّ ديكتاتورية النخب الغربية موجَّهة ضدّ كلّ المجتمعات، بما في ذلك شعوب الدول الغربية نفسها. إنّه تحدٍّ يواجه الجميع، ومثل هذا الإنكار الكامل للإنسان، والإطاحة بالإيمان والقيم التقليدية، وقمع الحرية، يكتسب سمات «الدين المعكوس»، شيطانية صريحة. لقد قال يسوع المسيح، في عظته على الجبل، مستنكراً الأنبياء الكاذبين: «من ثمارهم تعرفونهم» وتلك الثمار السامّة واضحةٌ للناس بالفعل، ليس فقط في بلادنا، وإنما في جميع البلدان، بما في ذلك بالنسبة لكثير من الناس، حتى في الغرب نفسه.

لقد دخل العالم فترةً من التحوُّلات الثورية، التي تحمل طبيعة جذرية، حيث يتم تشكيل مراكز تطوير جديدة، تمثل الأغلبية، وأصبحت أغلبية المجتمع الدولي مستعدة ليس فقط للإعلان عن مصالحها، وإنما لحمايتها، والنظر إلى التعددية القطبية كفرصة لتعزيز سيادتها، وبالتالي اكتساب الحرية الحقيقة، والأفق التاريخي، والحق في الاستقلال والإبداع، والتطوير الأصيل، وفق عملية متناغمة.

حركة التحرّر ضد الاستعمار والهيمنة أحادية القطب تتطوّر

إن لدينا، كما قلت، كثيرون يشبهوننا في التفكير، في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كثيرون ممن نشعر بدعمهم. فحركة التحرُّر المناهضة للاستعمار، وضدّ الهيمنة أحادية القطب تتطوّر بالفعل داخل أكثر البلدان والمجتمعات تنوعاً، وسوف تنضج علاماتها، وتلك ستكون القوة التي ستحدّد الواقع الجيوسياسي في المستقبل.

الأصدقاء المحترمين!

إننا نكافح اليوم مِن أجل طريق حرّ وعادل، أولاً وقبل كل شيء من أجل أنفسنا، من أجل روسيا، من أجل أن تصبح الإملاءات والاستبداد من الماضي. وأنا على يقين من أن البلدان والشعوب تدرك أنّ السياسة القائمة على استثنائية أيٍّ مِن الأطراف، وقدرته على قمع الثقافات والشعوب الأخرى، هي سياسة إجرامية بطبيعتها، ويجب علينا طيّ هذه الصفحة المُخزية. وانهيار الهيمنة الغربية الذي بدأ، لا عودة عنه. وأكرّر مرة أخرى أنّ الأمور لن تعود كما كانت من قبل.

إنّ ساحة المعركة التي دعانا إليها القَدَر والتاريخ هي ساحة المعركة لشعبنا ولروسيا التاريخية العظيمة. من أجل روسيا التاريخية العظيمة، ومن أجل الأجيال القادمة، ومن أجل أطفالنا وأحفادنا وأحفادهم. علينا أنْ نحميهم من الاستعباد، من التجارب الوحشية التي تهدف إلى شلّ وعيهم وأرواحهم. إننا اليوم نكافح حتى لا يدور في خَلَد أحدٍ في يوم من الأيام أنّ روسيا وشعبنا ولغتنا وثقافتنا يمكن أنْ تُستثنى أو تُحذف من التاريخ. اليوم، نحن بحاجة إلى توطيد المجتمع بأسره، وهذا التماسك الذي لا يمكن أن يقوم إلا على السيادة والحرية والإبداع والعدالة. فقيمنا هي الإنسانية والرحمة والتعاطف.

 

المصدر: موقع الخدمة الصحفية للكرملين

آخر تعديل على السبت, 01 تشرين1/أكتوير 2022 14:22