النرويج تضيف ملحاً «جافّاً» على جروح الطاقة الأوروبية
في إحدى الحلقات الدرامية لمسلسل التدهور والاتجاه نحو التفكك لمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، وعلى وقع أزمة اقتصادية عاصفة ولا يلوح منها مخرج في ظلّ انقياد «قادتها» وراء عقوبات المايسترو الأمريكي وعدوانيته ضد روسيا والصين، وجّه مشغّلو شبكة الكهرباء في الدنمارك وفنلندا والسويد تحذيراً للنرويج من أنّ اقتراحها بوقف تصدير الكهرباء «يقوّض السوق الأوروبية» واصفين النرويج بـ«الأنانية»، وسط مخاوف هذا البلد بشأن إنتاجه من الطاقة الكهرومائية بسبب الجفاف، ولم تستبعد الحكومة النرويجية أن تفرض تقنين الكهرباء على مواطنيها هذا الشتاء، وذلك في تضافر نادر للعوامل الاقتصادية والطبيعية والجيوسياسية.
أعلنت النرويج، وهي مصدر رئيسي للكهرباء، وثاني أكبر مورد للغاز في أوروبا، أنها قد تعلق عمليات تسليمها إلى أوروبا في الأشهر المقبلة. ليس السبب في نقص توريد الغاز الروسي هذه المرة، بل اجتماع تغير المناخ مع السياسات الخاطئة غير المستعدة للطوارئ، حيث تعرضت للجفاف خزاناتها المائية التي تزود 1700 محطة طاقة كهرومائية تولّد أكثر من 90% من كهرباء البلاد.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة تشغيل الشبكة الفنلندية لصحيفة فاينانشال تايمز: «ستكون النرويج أول دولة في أوروبا تفعل ذلك بمجال الكهرباء؛ ستكون خطوة خطيرة جداً وقومية» معتبراً ذلك «سلوكاً أنانياً للغاية»، ومضيفاً: «إذا لم نعمل معًا فسوف يساعد ذلك روسيا. أفضل طريقة لمساعدة روسيا هي ترك الفريق».
خصوصية الطاقة في النرويج وتأثير الجفاف
كانت العادة خلال السنوات السابقة أنه في بداية شهر آب/أغسطس تمتلئ الخزانات في أعلى السدود بنسبة 78.9% وفقًا للإدارة النرويجية للموارد المائية والطاقة (NVE). لكن هذا العام كان الامتلاء بنسبة 68.4% فقط نتيجة لانخفاض كميات هطول الأمطار بشكل استثنائي خلال العامين الماضيين. والمشكلة حادة في جنوب غرب النرويج بشكل خاص، حيث الخزانات ممتلئة بنسبة 50.4% فقط، وهذه المنطقة الجنوبية بالذات هي الأساسية في تأمين جزء كبير من الكهرباء إلى جيرانها الأوروبيين والبريطانيين.
في عام 2021، صدّرت النرويج 25.8 تيراواط ساعي، بزيادة قدرها 30% مقارنة بعام 2020. ويرجع هذا الرقم القياسي جزئيًا إلى تشغيل كابلين جديدين يربطان ألمانيا والمملكة المتحدة بالنرويج، والتي تزود أيضاً السويد وفنلندا والدنمارك بالكهرباء. ولكن بينما تستمر صادراتها في النمو، تزداد الطاقة الإنتاجية للمملكة الاسكندنافية بشكل أبطأ بكثير، ومن هنا جاء تحذير إدارة الموارد المائية والطاقة في يونيو/حزيران.
وبسبب انخفاض مستوى تخزين المياه دعت هيئة إدارة المياه والكهرباء النرويجية، منتجي الكهرباء إلى خفض إنتاجهم على الرغم من ارتفاع الأسعار في السوق الأوروبية، للسماح للخزانات بالتجدد بحلول الخريف وتجنب أزمة طاقة خطيرة. وفي مقال رأي بتاريخ 27 يونيو في صحيفة Aftenposten اليومية النرويجية، ذكّر مدير إدارة الموارد المائية كجيتيل لوند شركات الكهرباء «بمسؤوليتها عن أنها لا تدير مجرّد سلعة، بل أحد الموارد الأساسية للمجتمع». وطلب منهم التروي بصرف المياه «حتى تكون مستويات الخزانات في الخريف مرتفعة بما يكفي لمواجهة أحداث غير متوقعة في الشتاء والربيع القادمين».
من جانبها، حذّرت الشركة المشغلة لشبكة الكهرباء النرويجية وتدعى شتات-نيت Statnett من إمكانية فرض إجراءات التقنين اعتبارًا من أكتوبر فصاعدًا، بما في ذلك إغلاق المصانع وزيادة الأسعار وحتى قطع التيار الكهربائي. يثير هذا الاحتمال قلقًا وغضبًا بين النرويجيين، الذين اعتادوا على دفع أسعار منخفضة للكهرباء وبدأوا يشهدون ارتفاع فواتيرهم.
الرأسمالية تعاني قصر نظر متزايد تجاه الطوارئ
لأنّ خدمة حساسة ومهمة كالكهرباء، والطاقة بشكل عام، متروكة للشركات الرأسمالية، فإنّ الكهرباء ارتفعت كلفتها في المناطق الجنوبية الثلاث من النرويج ما بين 263 يورو/ميغاواط ساعي و327 يورو/ميغاواط ساعي، ولكن في شمال ووسط البلاد، هي أكثر بقليل من 1 يورو/ميغاواط ساعي! والسبب الرئيسي لهذا الفارق الهائل بالأسعار البالغ أكثر من مئتي إلى ثلاثمائة ضعف هو نقص قدرة النقل بين الشمال والجنوب، ما يطرح سؤالاً لماذا لم تعمل النرويج على ترابط وتكامل كافٍ حتى ضمن مناطقها هي كبلد واحد تحسباً لحالات الطوارئ؟ مما يدلّ على مشكلة تنموية وتنظيمية حتى ضمن النرويج كبلد واحد، ناهيك عن اعتماد دول أوروبية عليها.
وتواجه الحكومة النرويجية معادلة صعبة: فقد بذلت جهدها لتقديم نفسها تجاه الاتحاد الأوروبي كمورّد موثوق للطاقة، وحريصة على بيع أكبر قدر ممكن من النفط والغاز؛ ولكن أصبح من المستحيل تقريبًا تبرير بيع الكهرباء في الخارج بأسعار مرتفعة للغاية عندما يضطر العديد من النرويجيين أنفسهم إلى دفع المبلغ نفسه.
ودعا سيلفي ليستاوغ، زعيم حزب التقدم الشعبوي اليميني، النرويج إلى بناء محطات طاقة تعمل بالغاز قائلاً بأن الأمر سيكون «فضيحة» إذا احتاجت النرويج الشهيرة بأنها «دولة الطاقة» إلى ترشيد استهلاك الكهرباء. كما دعا سياسيون آخرون إلى إسقاط خطط باهظة التكلفة لكهربة منصات النفط البحرية في النرويج، والإبقاء عليها تعمل على توربينات الغاز (لتوفير الكهرباء).
النرويج حالة بارزة (ضمن منطقة اليورو رغم أنها ليست في الاتحاد الأوروبي) ولكن حتى بلد ضمن الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا، حكومته متشككة أيضاً في الفكرة الأوروبية لاستئناف بناء خط أنابيب الغاز Midcat الذي سيربط شبه الجزيرة الأيبيرية وأوروبا الوسطى، حسبما ذكرت صحيفة الباييس الإسبانية في 18 من آب/أغسطس الماضي.
فنحن أمام أمثلة ساطعة على الدرجة التي يمكن أن يصل إليها انفصام آليات السوق والتسعير الرأسمالية الربحية المحضة، عن الحاجة الواقعية والعقلانية لتنمية حقيقية وتلبية حاجات عموم الناس: فلقد نشرت الإذاعة الوطنية النرويجية NRK في وقت سابق من صيف العام الجاري أنّ شركات الطاقة في شمالي البلاد تشكو من أن الأسعار كانت منخفضة جدًا لدرجة أنها لا تستطيع الاستثمار في سعة جديدة، في حين تشكو الشركات الصناعية في جنوب البلد نفسه من أن الأسعار كانت بالعكس تماماً مرتفعة جدًا لدرجة أنها لا تستطيع الاستمرار في التصنيع. ففي كلتا الحالتين أحدث المنطق الرأسمالي شللاً في تلبية الحاجة الملحة لطاقة مستدامة وعادلة لجميع الناس.