محاولة لتشريح «التغيير الديمغرافي»

محاولة لتشريح «التغيير الديمغرافي»

منذ نهايات عام 2012، أي منذ دخلت الحرب في سورية أطوارها الأكثر دمويةً، مع ما أنتجته من عمليات نزوح ولجوء، دخل تعبير «التغيير الديمغرافي» في الاستخدام اليومي ضمن القاموس السياسي لمعظم جهات وأطراف الأزمة؛ الداخلية منها والخارجية.

تعبير «التغيير الديمغرافي» ليس جديداً على العلوم الاجتماعية، ولكنّ الطريقة التي استخدمته بها -ولا تزال- أطراف سورية عديدة، هي طريقة تكاد تكون منقطعة الصلة كلياً بالأساس العلمي لهذا التعبير، وعلى الأقل فهي طريقة اختزالية وتشويهية تحصره ببعدين اثنين: الطائفي والقومي الشوفيني بأنواعه، وذلك بشكل مقصود في أحيانٍ عديدة، وعن طيب نية مترافق مع قصور معرفي في أحيانٍ أخرى.

قبل محاولة الدخول أبعد في غايات الاختزال والابتسار والتشويه الذي يتعرض له هذا التعبير، ربما من المفيد تقديم بانوراما واقعية عن الأشكال الفعلية للتغيير الديمغرافي الذي جرى ويجري على الأرض السورية خلال العقد الماضي بشكل خاص، والتي تمتد بعضها إلى ما قبل ذلك بعقود...

بين هذه الأشكال يمكن أن نورد التالي:

1- ربما الشكل الأكثر أهمية وتأثيراً وكارثية على الإطلاق هو أنّ قرابة نصف سكان سورية، ومن مختلف المناطق والطوائف والقوميات والأديان، قد باتوا فعلاً خارج البلاد؛ لاجئين ومهجرين ومهاجرين، ولأسبابٍ أمنية واقتصادية وسياسية. بين هؤلاء من ينتظر ظروفاً مناسبة للعودة، ولكن بينهم من حسم أمره بعدم العودة (على الأقل حالياً). وكلما طالت الأزمة، فإنّ نسبة أولئك الذين لا يرغبون بالعودة وليست لديهم نية بها، ستزداد وتزداد؛ ما يعني أننا لسنا أمام تغير طارئ ومؤقت، بل أمام «تغيير ديمغرافي» عميقٍ وبآثارٍ تدميرية مديدة قد تمتد عقوداً.

2- الشكل الثاني المدمّر من «التغيير الديمغرافي» الجاري، يتعلق بالشرائح العمرية التي باتت خارج البلاد، والحديث هنا هو بالدرجة الأولى عن فئة الشباب، والتي يمكن لحظ أنها المهاجر/المهجّر الأساسي من كل مناطق سورية على الإطلاق، ومن مختلف الطوائف والقوميات والأديان وإلخ. فإذا كانت واحدة من أهم الطاقات الكامنة في مجتمعنا هي في كونه مجتمعاً فتياً، (وهو محددٌ يكاد يكون حاسماً من وجهة نظر العلوم الاجتماعية في تحديد اتجاه ومستقبل دولة من الدولة أو مجتمع من المجتمعات)، فإنه قد خسرها، أو على الأقل فهي طاقة كامنة قد انخفضت بشكل مروّع... ما يزيد من خطورة هذا الشكل، هو أنّ الشباب بطبيعتهم أكثر قدرة على التكيف والاندماج ضمن المجتمعات التي هاجروا إليها، الأمر الذي يخفض من احتمالات عودتهم، وبالتناسب طردياً مع امتداد الأزمة زمنياً.

3- الشكل الثالث من التغيير الديمغرافي الكارثي، هو نوعية المهاجرين/المهجرين؛ فليس خافياً أنّ أفضل الكفاءات قد باتت بقسمها الأعظم خارج البلاد (أطباء، مهندسين، ممرضين، فنيين من مختلف الأنواع، أكاديميين، ووصولاً حتى إلى المهرة من أصحاب المصالح بأنواعها المختلفة؛ حتى لقد بات البحث عن «معلم شاطر» في الصحية/الدهان/الكهرباء... إلخ، أمراً شديد الصعوبة. وعدا عن العواقب التي يصعب حصر كارثيتها لهذا النوع من التغيير الديمغرافي، فإنه ربما يكون بين أخطار أشكال التغيير؛ فالكفاءات السورية، ولأنها كفاءات حقيقية، فإنّ فرص استقرارها بأوضاع معقولة وحتى جيدة أو ممتازة في البلدان التي باتت فيها، هي فرص عالية؛ ما يعني بطبيعة الحال أن احتمالات عودتها للبلاد، حتى بعد تأمين الظروف السياسية والاقتصادية بحدها المعقول، هي احتمالات ضعيفة، وتحتاج لتعزيزها ورفعها إلى عمل وطني شديد الضخامة والمسؤولية...

4- بين أشكال التغيير الديمغرافي الجاري، والذي هو سابق على الأزمة وتعزز معها (كما هو الأمر مع الشكلين السابقين أيضاً)، هو طبيعة العلاقة بين الريف والمدينة؛ حيث يمكن القول إنّ الريف السوري الآن يكاد يكون خالياً، إذا نسبناه إلى الاكتظاظ الهائل للمدن. وهذا أحد نتائج الأزمة، ولكن ليس فقط الأزمة الراهنة، بل وما سبقها وما تخللها من سياسات ليبرالية قتلت الزراعة وقتلت الإنتاج الحقيقي على العموم لمصلحة الخدمات والاقتصاد الأسود. وهذا الشكل من التغيير يحمل معه تحولات عميقة ليس فقط في هيكلية الاقتصاد السوري ونوعيته وطبيعته (على الأهمية الهائلة لهذا الأمر)، ولكن فوقه فإنّه يحمل تحولات عميقة ثقافية ونفسية وإلخ. وهي تحولات قد يكون فيها جوانب ما إيجابية، ولكن لأنّها تجري ضمن ظروف يموت فيها الإنتاج ويحيى الاقتصاد الأسود، فإنّ معظم جوانبها سلبية إلى الحد الذي يمكن القول إنها مع غيرها من التغييرات تقوم بتدمير روح المجتمع السوري والجانب المشرق من إرثه وقيمه وتقاليده وأخلاقياته...

5- الشكل الخامس، والذي تجري محاولة اختزال «التغيير الديمغرافي» ضمنه، هو التهجير الإجباري، وخاصة داخلياً، لسوريين ينتمون لطائفة أو قومية معينة، من مناطقهم الأصلية نحو مناطق أخرى داخل البلاد، بفعل الحرب وأمرائها، وبفعل دولٍ خارجية متدخلة. والذين يركزون صباح مساء على هذا الشكل من التغيير دون غيره، ويحمّلون عليه دعايتهم السياسية بأنه يؤدي إلى تغيير «التناسبات» بما يصب بمصلحة «مكوناتٍ» وضد «مكونات»، يُسقطون من اعتبارهم حقائق مغايرة تماماً ضمن هذا الشكل نفسه من التغيير؛ فإذا كان الحديث هو عن الطوائف والأديان والقوميات، فإنّه لم يسبق للشعب السوري طوال تاريخه، أن اختلطت «مكوناته» وتجاورت بالشكل الذي اختلطت وتجاورت فيه خلال العقد الماضي؛ إذ إنّ ضعف التنمية الذي كان السمة العامة لسورية منذ الاستقلال وحتى الآن، قد حافظ إلى حد غير قليل على التوزع «المكوناتي» للشعب السوري على الأرض السورية، بشكله نفسه الذي كان عليه أيام الإقطاع، ودون تغييرات كبرى مهمة. وهذا التوزع الذي يحمل سمات الإقطاعات، هو مؤشر بذاته على مستوى تطور هوية وطنية شاملة، وضمناً على مستوى تطور الصناعة والزراعة والمشاريع الوطنية الكبرى. بكلامٍ آخر، فإنّ هذا النوع من التغيير، ورغم الطريقة المأساوية التي جرى ضمنها، إلا أنه يمكن اعتبار أنّ ما أنتجه من اختلاط وتجاور غير مسبوق هو أحد الإيجابيات النادرة ضمن بحر الكوارث الذي نغرق فيه... وطبيعي أنّ تحويل هذه الإيجابية إلى أمر ملموس ومستدام، لن يكتمل إلا مع النهوض بالبلاد مجدداً ضمن منظومة سياسية جديدة، وعلى أرض واحدة، وضمن مشروع حضاري ووطني ضخم ومتكامل الأبعاد وصولاً لبلورة هوية سورية وطنية تحترم الخصوصيات، ولكنها قائمة بذاتها وليست نتاج إلصاق مكونات إلى جانب بعضها البعض.

الاختزال القاتل

بعد هذه البانوراما من أشكال التغيير الديمغرافي التي يعيشها الشعب السوري، يظهر مدى ضيق الزاوية التي يتم تناول تعبير «التغيير الديمغرافي» ضمنها... وهو أمر يحتاج تفسيراً، رغم أنّه فيما نظن واضح بالنسبة للجميع...

بالنسبة للمتشددين العامدين والمتعمدين في عملية التشويه والاختزال، فليس ذلك بمستغرب منهم؛ فتقديم صورة الصراع على أنه قومي أو طائفي أو مركب من هذا وذاك، هو أمر طالما خدم الأطراف المتشددة في سورية، والتي عملت دائماً على التعمية عن حقيقية وجوهر الصراع، بأبعاده الداخلية والدولية، وخاصة بأبعاده الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية.

بكلامٍ آخر، فإنّ المتشددين قد استعاروا هذا التعبير من العلوم الاجتماعية، بما له من «هالة» أكاديمية وقانونية، وحوّلوه إلى شيفرة تؤدي لهم -ضمن الخطاب السياسي- مجموعة من الوظائف: فمن خلاله «يلطّفون» خطاباتهم الطائفية والقومية، بحيث لا تبدو شديدة الفجاجة والمباشرة. وبذلك يسعون للحفاظ على سرديةٍ محددة للصراع بوصفه صراعاً طائفياً وقومياً، ودون أن يقولوا ذلك بشكل علني؛ فقوله بوقاحةٍ وبالفم الملآن يتناقض مع الواقع أولاً، وثانياً مع ادعاءاتهم بأنهم «يناضلون» لمصلحة الشعب السوري بأكمله. أكثر من ذلك، فالاستخدام العلني للخطاب الطائفي والقومي الشوفيني، يفقدهم «شرعية» العمل السياسي على المستوى الوطني، ويفقدهم المكتسبات -المتحققة أصلاً أو المأمولة- من تلك الشرعية...

آخر تعديل على الجمعة, 27 أيار 2022 19:58