أوهام أمريكية في ربع الساعة الأخير: هل يمكن عزل روسيا طويلاً؟
شهدت كل مراحل التاريخ التي اتسمت بتراجع وزن إمبراطوريات كبرى محاولات يائسة من هذه الإمبراطوريات للي ذراع التاريخ، ومحاولة عكس اتجاه حركته عبر القتال من أجل الحفاظ على توازنات وأنماط قديمة. تجري اليوم محاولة مماثلة من جانب الغرب الذي يجتهد في استحضار آليات وطرق عفا عليها الزمان من أجل إبطاء تراجعه.
تتمثل واحدة من المحاولات الغربية في هذا السياق بما جاء في تقريرٍ مشترك للكاتبين، مايكل بيرنبوم وكارين دي يونغ، نشر يوم السبت 16 نيسان 2022 في صحيفة "واشنطن بوست"، والذي لفت إلى وجود ما سمّاها "استراتيجية جديدة" هدفها "عزل طويل الأمد لروسيا".
واستعرض التقرير ما قامت به الدول الغربية حتى الآن في سياق المواجهة مع روسيا، حيث وضع الاتحاد الأوروبي خططاً لتقليص اعتماده الشديد على الغاز الروسي بمقدار الثلثين بحلول نهاية هذا العام، وإنهاء جميع واردات الوقود الأحفوري من روسيا قبل عام 2030، وأعلنت دول أوروبية عن زيادات قياسية طويلة الأمد في ميزانياتها العسكرية، بينما لوّحت كل من فنلندا والسويد بأنها قد تقدّم طلباً للحصول على عضوية الناتو قبل قمة الناتو في حزيران المزمع عقدها في مدينة مدريد الإسبانية.
وآخذاً بعين الاعتبار "حالة الوحدة" التي أفرزتها المعركة في أوكرانيا بين الولايات المتحدة وأوروبا، لفت التقرير الانتباه إلى أنه ما إن يخمد بريق الحدث الأوكراني المتأجج حالياً فإنه ستعود إلى الواجهة الخلافات الحتمية بين الجانبين الأمريكي والأوروبي حول قضايا زيادة الإنفاق العسكري للناتو، وطبيعة التعامل مع روسيا، وكذلك مع الصين... إلخ. من هذه القناعة تحديداً، حدّد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته إلى وارسو مؤخراً مهمة بلاده: "يجب أن نلتزم الآن بأن نكون في هذه المعركة على المدى الطويل"، مكرراً الحديث عن "ضرورة الوحدة" بين الولايات المتحدة وأوروبا.
واللافت في التقرير هو أنه لم يحدّد أية خطوات عملية لتنفيذ هدف "عزل روسيا على المدى الطويل"، مكتفياً بالإشارة العامة إلى ضرورة تنفيذ هذا الهدف من أجل ضمان "الوحدة"، وهو أمرٌ مفهوم بالنظر إلى أن الهدف غير قابل للتحقيق فعلياً، فعدا عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أكد أن "عزل روسيا أمر غير ممكن"، فقد شهدنا تصريحات مماثلة من قادة غربيين مطّلعين، مثل المستشار الألماني الأسبق، غيرهارد شرودر، الذي شدّد في حديث مع صحيفة "نيويورك تايمز" على أن عزل روسيا سياسياً واقتصادياً لمدة طويلة هو شيء غير ممكن، نظراً لحاجة الصناعة الألمانية للمنتجات الروسية التي لا تقتصر على النفط والغاز فحسب.
أما محاولة عكس اتجاه حركة التاريخ التي ذكرناها في البداية، فيمكن الاستدلال عليها بما نراه هنا وهناك من تلميحات تفيد باحتمال وجود محاولة أمريكية ترمي إلى إنشاء نظامين ماليين عالميين، غربي تستكمل عبره الولايات المتحدة نهبها لـ"حلفائها" التقليديين ولا سيما الأوروبيين، وشرقي يضمّ القوى الصاعدة المناوئة للهيمنة الأمريكية. وبذلك، يأمل مؤيدو هذا التوجه الحفاظ على بقايا الهيمنة الأمريكية وإبطاء تراجعها عبر الاعتراف بـ "أمر واقع جديد" ليس لا يتناسب مع جوهر موازين القوى الدولية الجديدة فعلياً فحسب، بل ويعاكس تطور التاريخ البشري عملياً، حيث الشوط الواسع الذي لعبته الرأسمالية في إنجاز مهمتها النوعية – وفقاً لتعابير كارل ماركس في رسائله مع فريدريك أنجلس- المتمثلة في خلق السوق العالمية الواحدة، هنالك اليوم من يريد إنهاءه عبر إعادة تقسيم هذه السوق إلى سوقين عالميتين، وهي محاولة ربما تماثل في جوهرها محاولة اللوردات الإقطاعيين توسيع الإنتاج الزراعي إلى الحدود القصوى في محاولة يائسة لإبطاء ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي الجديد آنذاك والمحمول على الثورة الصناعية وتسارع الاختراعات وتطور أدوات العمل.