الولايات المتحدة... عندما يتحوّل الاحتفاء إلى مأتم
أزيح الستار منذ أيام قليلة عن تمثال نصفي لوزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر، ليوضع في المتحف الوطني للدبلوماسية الأمريكية في العاصمة واشنطن. وقد حضر هذه المناسبة مجموعة من السياسيين الأمريكيين والضيوف، كان من بينهم الوزير المكرّم جيمس بيكر، ووزير الخارجية الحالي، أنتوني بلينكن، الذي وجد في الحدث فرصة لتذكّر زمنٍ غابر في لحظات عصيبة بالنسبة لواشنطن ومشرقة بالنسبة لشعوب العالم.
عمل جيمس بيكر في السياسية الأمريكية بشكلٍ فاعل، فشغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض للرئيسين جورج بوش الأب ورونالد ريغان، وأدار 5 حملات انتخابية، وشغل منصب وزير الخزانة في إدارة الرئيس ريغان، لينتقل بعدها إلى وزارة الخارجية في عهد الرئيس بوش الأب، واستمر في هذا المنصب من شهر كانون الثاني للعام 1989 حتى شهر آب 1992.
حقبة تاريخية من نوع خاص
يقول بلينكن في بداية حديثه إنّ لحظات محددة في التاريخ تحمل تغيرات كبرى في العالم، ويقتبس من بيكر وصفه لهذه اللحظات بالذات بأنها «زوبعة التاريخ». فسنوات بيكر في منصب وزير الخارجية كانت سنوات حافلة، إلى تلك الدرجة التي قال فيها وزير الخارجية السابق أنه لم يرَ في حياته أشياء تتغير بهذه السرعة.
لم يعد أحدٌ ينكر التغيرات الهائلة التي حدثت في تلك السنوات، فقد انهار جدار برلين، الحدث الذي انتظرته الولايات المتحدة حسب بيكر لـ «أكثر من 40 عاماً»، وتلاه انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك جمهورياته، وغيرها من الأحداث الكثيرة على مستوى العالم. ويشرح بلينكن نجاحات واشنطن الكبرى التي حققها جيمس بيكر من خلال علاقته الوثيقة مع وزير الخارجية السوفييتي في ذلك الوقت إدوارد شيفردنادزه، ويصف كيف توقف الاتحاد السوفييتي عن مجابهة واشنطن وانتقل بسلام إلى موقع آخر تماماً.
هذه الأيام التي تذكّرها بلينكن مع الحضور بالإضافة للعقد الذي تلاها وبكثيرٍ من الحنين، كانت الفترة التي استطاعت الولايات المتحدة فيها فرض مصالح نخبها الحاكمة على الجميع، وفرض الحروب والنزاعات بما يخدم مصالحها فقط، وتعطيل القانون الدولي الذي وُضِع مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وفرضت قانوناً جديداً كانت هي الآمر الناهي فيه.
بلينكن يعود إلى الحاضر
اعترف بلينكن في حديثه بأن هذا العصر قد انتهى، وأشار إلى أن الولايات المتحدة اليوم أمام واقع جديد كلياً، فقال إن الولايات المتحدة تجد نفسها مرة أخرى في «زوبعة التاريخ»، ولكن فيما يُفهَم من بلينكين كاعتراف بأن الأمور تسير هذه المرة عكس ما تشتهي واشنطن، قال بأن الصين اليوم تتحدى «النظام القائم على القواعد» - وهو التعبير الذي تستخدمه واشنطن عادة للبديل الذي فرضته هي بشكل أحادي بدلاً من القانون الدولي - والذي يرى بلينكن أنه «حفظ الازدهار للأمريكيين والشعوب في جميع أنحاء العالم» على حد قوله، لكنه اعترف في الوقت نفسه بأن «عصر ما بعد الحرب الباردة قد انتهى».ويعطي وزير الخارجية الأمريكي الأحداث في أوكرانيا كمثالٍ آخر على ذلك. ليستدرك بعدها حجم هذا الإعلان، ويشير إلى أنه يحتفظ في مكتبه بلوحة أهداها الرئيس ريغان لبيكر كتب عليها «يمكن تحقيق ذلك» وهو ما يرى فيه تحفيزاً كافياً لإنجاز المهمة المستحيلة بوقف الزوبعة! إعلان بلينكن عن نهاية العصر الذهبي للولايات المتحدة الأمريكية «عصر ما بعد الحرب الباردة» ذكّر الجميع أن هذه الذكريات التي تردّد صداها في «متحف الدبلوماسية الأمريكية» ستبقى هناك وداخل جدران هذا المتحف كذكريات وتماثيل، وعندما يغادر بلينكن «متحف الدبلوماسية» سيعود إلى مهمته المستحيلة في ليّ ذراع التاريخ.
على الرغم من أنّ انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية بات واقعاً يدركه حتى «حلفاء» الولايات المتحدة الأمريكية إلا أنّ سماع بلينكن يقول هذه الكلمات يحمل وقعاً آخر تماماً، فالبعض يطرب فقط عند سماع المزمار الأمريكي، ولذلك خرج وزير الخارجية الأمريكي من قلب واشنطن، وأعلن بشكلٍ دبلوماسي لبق نهاية عصر الإمبراطورية الأمريكية.