سلاح العقوبات يجرح حامله

سلاح العقوبات يجرح حامله

تعود الجذور التاريخية لاستخدام سلاح العقوبات إلى الحرب العالمية الأولى، حيث سعت الدول الأوروبية للتحكم بمنافسيها عبر استخدام سلاح «الحصار الاقتصادي»؛ وبالتحديد كل من فرنسا وألمانيا من خلال فرض عقوبات على أعدائهما.

ثم جاء التقاء القادة الأوروبيين بالرئيس الأمريكي وقتها «وودرو ويلسون» خلال مؤتمر باريس للسلام عام 1919، والذي تمخض عنه تأسيس «عصبة الأمم» بموجب معاهدة «فرساي»، وذلك باعتبارها منظمة عالمية مقرها جنيف والتوافق على استخدام سلاح «الحصار الاقتصادي» لردع الدول المُعتدية التي تهدد السلام العالمي.

استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية على مدار القرن الماضي سلاح «العقوبات الاقتصادية» أو «الإكراه الاقتصادي»، كأداة رئيسة في سياستها الخارجية ضد العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم، ومن أبرزها: كوبا، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وإيران، وبيلاروسيا ومؤخرًا ضد «موسكو» لثني روسيا عن قيامها بمنع تمدد حلف شمال الأطلسي نحو أوكرانيا.

 كوبا أول المحاصرين

بعد مضي ستين عاماً من الحصار الاقتصادي الأمريكي على كوبا يظهر أن العقوبات أثرت بشكل كبير على تكوين الاقتصاد الكوبي برمته، منذ دخل الحظر على التجارة الثنائية في شباط 1962. وكان هدف الحصار الاقتصادي حسب الأمر التنفيذي الذي أصدره كينيدي هو خفض التهديد الذي يمثله «اصطفاف كوبا مع قوى شيوعية» رغم فشل الولايات المتحدة على إجبار كوبا على تبديل نهجها مذاك.

ويعترف الأمريكيون بأن الحصار أتى بنتائج عكسية بل «لم يتم الحصول على شيء إطلاقاً من هافانا» فيما تسعى كوبا للحصول حالياً على دعم من الصين وروسيا بعدما كانت تتلقى دعماً من الاتحاد السوفييتي في أيامه.

 إيران تحت العقوبات بعد الثورة

فرضت الولايات المتحدة أول عقوبة على إيران في تشرين الثاني 1979 بعد استيلاء مجموعة من الطلاب الإيرانيين على السفارة الأمريكية في طهران في أوج الثورة الإيرانية. شملت العقوبات المفروضة بموجب الأمر التنفيذي رقم 12170 تجميد ما يقرب من 12 مليار دولار من الأصول الإيرانية، منها ودائع بنكية وذهب وعدة ممتلكات أخرى، وفرض حظر اقتصادي. رُفعت تلك العقوبات في كانون الثاني/يناير 1981 بعد التوقيع على اتفاقية الجزائر .فيما فرضت الولايات المتحدة العقوبات الثانية على إيران في عهد الرئيس رونالد ريغان عام 1987 واشتدت تلك العقوبات في عام 1995 لتشمل المؤسسات التي تتعامل مع الحكومة الإيرانية.

وتتالت العقوبات حتى آب 2020 إذ تصدت الأمم المتحدة لجهود الولايات المتحدة لفرض العقوبات الجزائية على إيران، إذ صرح مجلس الأمن أنه لا يمكنهم المضي في تنفيذ تلك المناورة. وفي تشرين الأول 2020 فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على قطاع إيران المالي تستهدف 18 بنكًا إيرانيًا.

ليبيا وغيرها

وقعت الولايات المتحدة على قانون العقوبات على إيران وليبيا في 5 آب 1996 الذي تحول إلى قانون العقوبات على إيران فقط بعد رفع العقوبات عن ليبيا عام 2006. ويبدو أن هناك ثلاثين دولة من ضمنها سورية شملتها العقوبات الأمريكية لأسباب مختلفة تندرج جميعها تحت خانة عدم الانصياع للسياسات الأمريكية فيما حدّثت كوريا الشمالية استراتيجيتها لتكون أقل اعتماداً على النظام المالي العالمي.

أوروبا والعقوبات

من اللافت تحوُّل موقف «واشنطن» بشأن استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية؛ فبعد أن كانت تتجنب اللجوء إلى فرض العقوبات في أوائل القرن العشرين، انقلبت الأوضاع في الآونة الأخيرة، وذلك مع تحوُّل أوروبا نحو الإحجام عن الانضمام إلى تلك الإجراءات والعقوبات الاقتصادية، والذي برز مع مساعي دول الاتحاد الأوروبي للالتفاف على العقوبات الأمريكية عبر حماية تجارتها مع إيران، وشروع ألمانيا في إتمام مشروع خط أنابيب «نورد ستريم 2» مع روسيا، مما يُشير إلى خلاف أمريكي-أوروبي بشأن استخدام سلاح العقوبات رغم الضغوطات الكبيرة التي تمارسها الولايات المتحدة.

الجدوى الحقيقية

يبدو أنه على الرغم من الآثار الكبيرة للعقوبات الاقتصادية الأمريكية، وتأثيراتها العميقة في تاريخ النظام الدولي على مدار القرن العشرين، فإن التجارب أثبتت محدودية فعاليتها في إحداث التغييرات السياسية التي تنشدها الولايات المتحدة، فضلًا عن تكاليفها الباهظة.

وتضاعف استخدام «واشنطن» لتلك العقوبات خلال فترة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مقارنة بالفترة من 1950 إلى 1985، كما تضاعف مرة أخرى بحلول عام 2010، فيما تراجعت فرص نجاح العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها خلال الفترة 1985-1995؛ حيث لم تتعدَّ 35% إلى 40%، وانخفضت النسبة إلى أقل من 20% بحلول عام 2016، الأمر الذي يُشير إلى أنه مع تصاعد استخدام العقوبات، تتراجع احتمالات نجاحها.

ويأتي استمرار أمريكا في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية خلال العقود الماضية خاصة ضد الدول الكبرى، بسبب انخفاض إمكانيتها في التدخل العسكري، فبقيت السلاح الوحيد، رغم تزايد مخاطر استخدام العقوبات الاقتصادية مجددًا خلال الآونة الأخيرة؛ مع حلول الأزمة المالية العالمية 2008.

فإذا كان الهدف من فرض العقوبات الاقتصادية هو إعاقة تطور الخصوم والمنافسين، فها هي العقوبات تتسارع وتتعمق في ظروف هذه الأزمات، خاصة وأن الغرب لا يستطيع فعل أي شيء آخر سوى هذا في ظل التطور الروسي الهائل على الصعيد العسكري بما في ذلك الأسلحة فرط الصوتية ما جعل الغرب كله في حالة عجز عن المواجهة العسكرية المباشرة وحتى غير المباشرة، وإذا كان الغرب سابقاً يهدد وينفذ تهديداته فإن هذا لم يعد متاحاً له اليوم وليس بمتناوله، وأصبح من الصعب جداً تطبيقه، ولذا أصبح سلاح العقوبات دارجاً.

روسيا والعقوبات الجديدة

يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن أن العقوبات شديدة جداً، ولها ثمن باهظ على الاقتصاد الروسي. وفي مجالات متعددة ومتنوعة من الطاقة إلى الشركات التجارية المختلفة، فضلاً عن المصارف والوصول إلى الأسواق المالية. لكن مشروع «السيل الشمالي 2» خط أنابيب نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، يبقى المحور الرئيس لهذه العقوبات. معوّلين على أن ألمانيا قد لا تقاوم الضغوط الأمريكية أو الغربية للتعاون في هذا المجال. على أساس أنها لا يمكن أن تخرج عن نطاق «درع الناتو»، مهما كانت المبررات.

لكن يبدو أن الضربة الأكبر ستكون حظر تحويل الروبل الروسي إلى العملات الأوروبية، ولا سيما اليورو، الأمر الذي سيضرب بقوة إمكانية التبادل التجاري مع أوروبا وسيؤثر على إمدادات النفط والغاز للقارة العجوز.

ما هي العقوبات التي تم فرضها على روسيا؟

يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على 27 شخصية ومنظمة روسية، ضمنها مصارف. كما أنه يحد من وصول روسيا إلى أسواق المال الأوروبية - ويوقف إمكانية حصولها على الأموال من بنوك الاتحاد الأوروبي - ويحظر التجارة بين الاتحاد الأوروبي وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.

وشملت العقوبات 351 عضواً من مجلس الدوما الروسي.

وتهدف العقوبات الأمريكية الأخيرة، إلى الإضرار بقدرة روسيا على تمويل جهودها العسكرية. إذ تستهدف سبعة بنوك روسية تقول الولايات المتحدة إنها عناصر أساسية في قطاع الدفاع الروسي. فلم يعد بإمكانها القيام بأعمال تجارية في الولايات المتحدة أو الوصول إلى النظام المالي الأمريكي.

وقالت الولايات المتحدة إنها فرضت عقوبات أيضاً على خمس من النخب الروسية الرئيسية وأضافت قيوداً على الصفقات الأمريكية المتعلقة بالديون الوطنية لروسيا.

وقد حذر مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا من أن فرض أي عقوبات على موسكو لن يضر بروسيا وحدها، وسيستدعي الرد عليها.

وأشار سابقاً، إلى أن بلاده «تعلمت كيفية التعايش مع مبدأ فرض العقوبات»، ورداً على سؤال حول التهديدات الغربية بفرض عقوبات على روسيا بسبب أوكرانيا، أجاب: «بالطبع سنرد»، لافتاً إلى أن روسيا تعرضت لعقوبات مختلفة في كثير من الأحيان لدرجة أنها لم تعد تحصيها.

فيما قال الرئيس الشيشاني، رمضان قديروف: إن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا مجرد «خرافات» من الرئيس الأمريكي جو بايدن، مؤكداً انعدام الجدوى من هذه «الخرافات البايدنية»، ومضيفاً: «يجب أن يرفعوا العقوبات بعد شهر، لأنه من دون روسيا لا يوجد اقتصاد، ولا سيما في أوروبا«.

من تجميد الأصول المالية إلى حظر السفر وتشديد الإجراءات الدبلوماسية، تخضع روسيا بالفعل لعدد كبير من العقوبات التي فرضها الغرب منذ بداية الأزمة الأوكرانية في عام 2014، أضيفت إليها عقوبات جديدة على خلفية الأزمة الأوكرانية الجارية.

ومن بين العقوبات السابقة هناك أولاً إجراءات دبلوماسية حيث تم استبعاد روسيا من مجموعة الثماني في عام 2014، ثم تم فرض إجراءات تستهدف أفراداً وشركات محددة.

أنشأ الاتحاد الأوروبي قائمة سوداء تضم 185 شخصاً و48 كياناً يخضعون لتجميد الأصول وفرض حظر على دخول أراضي الاتحاد الأوروبي، ويتم تجديد هذه الإجراءات بانتظام.

ومثل الولايات المتحدة، قرر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على التجارة مع روسيا تؤثر على البنوك الروسية وشركات الدفاع وشركات النفط. وتشمل هذه العقوبات فرض حظر على صادرات وواردات الأسلحة وتقييد الوصول إلى أسواق رأس المال الأولية والثانوية في الاتحاد الأوروبي.

يتمثل أحد الإجراءات في استبعاد روسيا من نظام التبادل المالي «سويفت» الذي تديره جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وهذا من شأنه أن يجعل من الصعب جداً على البنوك الروسية القيام بأعمال تجارية في الخارج.

غير أن ذلك ستكون له أيضاً تكلفة اقتصادية على دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا، اللتين تتمتع بنوكهما بصلات وثيقة مع روسيا. 

عوامل القوة الروسية

وفي مواجهة سيف العقوبات، داخلياً يتم الحديث في روسيا عن ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة أكثر فأكثر، حيث تملك البلاد احتياطات مهولة من الذهب والنفط والمعادن، لكن لا يتم استغلالها وتوظيفها بطريقة صحيحة، بما يؤهلها للتربع على هرم الدول الصناعية والثرية.

إن ما يحدث اليوم في أوكرانيا هو بمثابة التأكيد على أن نظاماً عالمياً جديداً «سياسياً واقتصادياً» قد وُلِدَ، فروسيا اليوم غير روسيا في الماضي القريب؛ روسيا اليوم الدولة القوية القادرة اقتصادياً وعسكرياً صاحبة التأثير الأكبر في الاقتصاد الأوروبي عبر إمداداتها له بالغاز والنفط والمحاصيل الغذائية وغيرها العديد من المواد الخام المستخدمة في مختلف الصناعات، روسيا اليوم أجبرت تركيا على إعلان أنها لن تستطيع إغلاق مضيق البوسفور في مواجهة الملاحة الروسية.

 أوروبا ليست موحدة

أعربت دول عدة، بينها ألمانيا، والنمسا، والمجر، عن تحفظات وخشية من تأثير العقوبات على إمداداتها من الغاز الروسي.

وقالت الحكومة الألمانية «إن قطع سويفت ستكون له تداعيات هائلة... ليس على الشركات الألمانية في علاقاتها مع روسيا فقط، ولكن أيضاً على تسوية مدفوعات إمدادات الطاقة«.

أما المجر، فرحّبت بكون العقوبات «لا تشمل الطاقة» ما يضمن «إمدادات الطاقة للمجر، ودول أعضاء أخرى في الاتحاد الأوروبي«.

من جهته، قال حزب الخضر الألماني إنه «يجب دائماً توخي الحذر حتى لا نؤذي أنفسنا أكثر من الآخرين، فحينها لن يكون للعقوبات معنى«.

وأعلنت النمسا، أن العقوبات الاقتصادية التي قررها قادة مجموعة السبع، ستؤثر بالفعل على 70% من معاملات البنوك الروسية، ما يجعل حظرها من «سويفت» غير ضروري.

خففت الصين القيود المفروضة على واردات القمح الروسي، وهي خطوة يمكن أن تعالج مخاوف الأمن الغذائي في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وأدت هذه الخطوة من بكين إلى تخفيف تأثير العقوبات الغربية على روسيا.

تم اتخاذ قرار السماح باستيراد القمح من جميع مناطق روسيا خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبكين في وقت سابق.

إن سلاح العقوبات الأخير قد أجبر دول العالم البعيدة عن المركز الإمبريالي اليوم، على الوقوف، ولو بطريقة خجولة حتى الآن، للتعبير عن عدم رغبتها في المزيد في السير في الركب الغربي، وخاصة عندما أصاب سلاح العقوبات معظم دول العالم في مقتل النفط والغاز دافعاً البشرية إلى حافة صعبة ووضع حرج، حتى أن العديد من الدول الغربية قد تأثرت اقتصاداتها وأدركت أنها من المتضررين بهذا السلاح الذي يبدو أنه قد تثلم إلى الدرجة التي لم يعد فيها فعالاً أولاً، ولم يعد هناك من يرغب في تطبيقه حقيقةً ثانياً، لأن هذا السلاح أصبح يجرح حامله.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 16 آذار/مارس 2022 14:40