احتجاجات «التطعيم» وأزمة الثقة بالسلطة (فرنسا نموذجاً)
يسلط التقرير التالي الضوء على بعض العوامل الأعمق اجتماعياً وطبقياً وتاريخياً التي تتجلّى بظواهر التمرّد على إجراءات السلطة وخاصة عندما تحاول فرضها على الشعب قسراً، وعلاقة ذلك بتعمق أزمة انعدام الثقة بها، بغض النظر عن الجدال المتعلق بالتطعيم من الناحية الصحية والطبية والذي لن يكفي لفهم تعقيد الظاهرة الاجتماعية المعنية التي يبدو أنها مرتبطة أيضاً بردة فعل على الاغتراب الرأسمالي كما سنرى.
تبنّت الحكومة الفرنسية نهايةَ كانون الأول الماضي مشروعَ قانون «شهادة التطعيم» عوضاً عن «الشهادة الصحية» وإجراءات أخرى قالت إنها «للحد من انتشار فيروس كورونا». وخرجت المظاهرات بدعوة من «السترات الصفر» وأحزاب وجمعيات حقوقية وغيرها، وسط إجراءات أمنية كبيرة، حيث سجلت السبت 8 كانون الثاني الجاري مشاركة أكثر من 105 آلاف شخص، أي أربعة أضعاف من شاركوا في آخر تظاهرات سبقتها في 18 كانون الأول/ديسمبر الماضي، بحسب السلطات.
ماكرون يختار كلمات مُهينة
صبّ الرئيس الفرنسي المزيد من الزيت على النار بتصريحاته المهينة المحقّرة لغير المطعمين (وهم عدة ملايين من شعبه) وأثارت عليه معارضيه ومنافسيه في الانتخابات الرئاسية. فخرج في المظاهرات كثيرٌ من أنصار التطعيم أيضاً ولكن الرافضين لإجراءاته القسرية.
جاء تصريح ماكرون خلال نقاش له مع قراء صحيفة «لو باريسيان»، الأربعاء 5 كانون الثاني الجاري، فقال إنه مصمم على «إزعاج» أو «تنغيص حياة» الأشخاص غير الملقحين: «لن أضعهم في السجن، ولن أقوم بتطعيمهم بالقوة. ولكن عليكم أن تخبروهم: اعتباراً من 15 يناير/كانون الثاني، لن تكونوا قادرين على الذهاب إلى المطعم... ولن تتمكنوا بعد الآن من شرب القهوة، ولا الذهاب إلى المسرح ولا السينما... أنا لست مع التنغيص على الفرنسيين، وأعارض الإدارة طوال اليوم عندما تمنعهم. حسناً، ولكن هناك غير الملقحين، هؤلاء أريد حقاً أنْ أنغّص عيشهم. لذا سنواصل القيام بذلك، حتى النهاية، هذه هي الإستراتيجية».
وأشار خبير لغوي لموقع «ذي كونفرسيشن» البريطاني أن كلمة emmerder التي استعملها ماكرون بقوله «غير الملقحين، أريد حقاً أن أنغّص عليهم» Les non-vaccinés, j’ai très envie de les emmerder. هي فعلٌ مشتق من الاسم merde الذي يترجم حرفياً إلى «فضلات الجسم» (shit بالإنكليزية) والذي فقد كثيراً من معناه التاريخي الأصلي «سأجعلك تغطّي نفسك بالغائط» لكن استخدام ماكرون له بالسياق خرجَ كشتيمة بذيئة قد لا تفي بمعناها كلمة «التنغيص» العربية.
تصريحات ماكرون مثالٌ جديد يؤكّد على استنتاجين على الأقل: انحدار مستوى النخبة الحاكمة الفرنسية، حتى على مستوى الخطاب، كنموذج لنخب أخرى أيضاً في أوروبا والعالَم (ليس ماكرون وترامب وجونسون وغيرهم سوى أمثلة)، وكذلك مستوى وعمق أزمة هذه السلطات التي تميل بالممارسة أكثر فأكثر إلى «القوة العارية» للدولة على حساب «القوة الناعمة» مما يؤشّر لخسارات تعاني منها هذه الطبقة الحاكمة في ميدان «الهيمنة» على المجتمع (وفق مفهوم غرامشي) بالطرق التي سادت فترات سابقة عبر «التوافق» والإقناع و«الديمقراطية البرجوازية».
ردّة فعل على الاغتراب الرأسمالي
أشار الباحثان جيروم فوركيه، وسيلفان مانترناش (في تحليل نشراه في آب 2021) إلى أنّه إضافة لعوامل تاريخية مهمة (سنذكرها بنهاية التقرير الحالي) هناك «عامل آخر ربما يكون وزنه أكبر لتفسير التطعيم الأدنى الذي لوحظ في القوس الجنوبي الفرنسي الممتد من آرييج إلى جنوب جبال الألب، مع امتدادات تصل إلى دوردونيا وكويرسي من الغرب وجبال الجورا من الشمال، كما تظهر الخريطة التالية التي رسمها إيمانويل فيغنيرون، الأخصائي بـ«الجغرافية الصحية» في جامعة مونبلييه.
ويتابع التحليل «اعتنق جزء كبير من سكان هذه المناطق أسلوب حياة يريد الانفصال عن المجتمع الاستهلاكي مع رفض أو انعدام الثقة في بعض مظاهر التقدم التكنولوجي. تزدهر هذه الثقافة البديلة بشكل تفضيلي في المناطق الريفية أو الجبلية، بعيداً عن المراكز الحضرية. منذ السبعينيات، شهدت هذه المناطق الجبلية المتوسطة في جنوب فرنسا وصول موجات مختلفة من (الريف الجديد) ذات الرغبة بالانفصال عن نمط الحياة في المدينة والحرص على العيش بوتيرة مختلفة ووفقاً للقيم التي تفضل التواصل مع الطبيعة والتبادل والمقايضة والمساعدة المتبادلة بدلاً من امتلاك السلع المادية والاستهلاك المفرط... يعمل البعض في الزراعة والبستنة وتربية الأغنام والماعز وتربية النحل، وما إلى ذلك، ويعمل بعضهم الآخر في الحرف أو الأنشطة الثقافية، وقسم كامل يقوم بأنشطة موسمية (عمال زراعيون، موسميون في قطاع السياحة أو التموين) ويكملون دخولهم الضئيلة عبر الاقتصاد غير الرسمي والخدمات الاجتماعية».
التمرّد التاريخي في فرنسا وخصوصية الجنوب
لتاريخ فرنسا خصوصية معروفة، بثورتها البرجوازية، وكومونة باريس العمّالية، وما أشار إليه ماركس حول نموذجية الصراع الطبقي فيها، الأمر الذي يحتاج أبحاثاً جديدة (ليس مكانها هذا التقرير) لمعرفة عناصر الثابت والمتغير التي طرأت على الخصوصية الفرنسية بعد ماركس.
لكن نكتفي ببعض ملاحظات الباحثين الفرنسيين المشار إليهما سابقاً، إذ يبدو أنه حتى بعد نشوء دولة قومية برجوازية متقدمة مثل فرنسا، ما زالت هناك شروخ تاريخية تعاني منها «الهوية الوطنية» وذلك طبعاً بتداخلها مع التناقضات الطبقية كأساسٍ لعلاقات الاستغلال والظلم ومشكلات «الاندماج في الفضاء الوطني» والتي تشكل «ركيزة تاريخية قديمة يعاد تنشيطها دورياً». وتميز الجنوب الفرنسي تاريخياً، حيث يوجد فلاحون فقراء، بموقف أكثر تمرداً، وخاصةً في عام 1848 عندما فرضت الجمهورية الثانية الفتية ما يسمى بضريبة (45 سنتيم) والتي كان رفض أو تأخير دفعها أكثر شيوعاً في وديان «غارون» و«الرون» وفي المقاطعات الفرنسية المطلة على البحر المتوسط. ويقول التحليل «ما زالت في الذاكرة الجماعية لمناطق مختلفة من الجنوب ذكرى ثورات الفلاحين والثورات الشعبية، مثل انتفاضات الكروكان في بيريغورد أو رويرج أو كويرسي في القرن السابع عشر، أو ثورة رور في أرديش... والانتفاضة الشعبية ضد تطبيق قانون الغابات الجديد في القرن التاسع عشر، وتمرد مزارعي الكروم عام 1907 حاضرة في لانغدوك وروسيلون».
بدوره أشار المؤرخ فيليب غوتارد إلى «حيوية التقليد الشفوي والذاكرة الجماعية المرتبطة بهذه الفترة في (سيفين)، التي تعزز إلى جانب محتواها الديني الأولي، موقف المقاومة وعدم الإذعان، وتحدد ثقافة كاملة من الخيارات السياسية وأسلوب الحياة».
وأشار الباحثون إلى أن «جان لوك ميلينشون [زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري] لم يكن مخطئاً عندما أشاد بجزيرة كاثار وكاميسارد خلال اجتماعه الكبير في تولوز في آذار 2017». ويلاحظون العلاقة بين جغرافيا التطعيم، وشعبية مرشّحي الرئاسة الفرنسية لانتخابات 2017 (كما تظهر الخريطة أدناه) حيث احتل ميلينشون الصدارة في المناطق الأكثر «تمرداً»، بينما اختار جزء كبير من الناخبين في المدن الكبرى، الألزاس أو الغرب الكبير، التصويت لماكرون.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ انعدام الثقة الجنوبي في التطعيم يأتي جزئياً أيضاً بالتوافق مع مزاج المعارضة الشعبوية اليمينية ولا سيّما في «ساحل المتوسط المختلف جغرافياً واجتماعياً وكهربائياً بقوس يمتد من بربينيان إلى نيس، والسهول الحضرية» التي أخذت فيها اليمنية المتطرفة مارين لوبان زمام المبادرة إلى حد كبير في الجولة الأولى من انتخابات 2017.