أولويات واشنطن وأتباعها الغربيين في أفغانستان

أولويات واشنطن وأتباعها الغربيين في أفغانستان

تعيش أفغانستان منذ انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية في آب 2021 كارثةً إنسانية حقيقية، بعد ترافق الانسحاب هذا بقطع المساعدات بشكل مفاجئ وتجميد أصول أفغانستان في الخارج. وتشير كل التقديرات الدولية إلى أن هذه الكارثة في حال بقاء مسبباتها سوف تتوسع في الأشهر القليلة القادمة ومن الممكن أن تتحول إلى مجاعة تضرب 23 مليون إنسان.

كيف نجحت هذه الصدمة الاقتصادية بتحقيق الآثار العميقة هذه؟ وما الذي تنشغل فيه واشنطن وأتباعها الغربيون في هذه الأثناء؟ وما المخرج من هذا المأزق السياسي والإنساني؟

وصفة واشنطن

عند مراقبة الموقف الرسمي الغربي ممّا يجري في أفغانستان، سواء في وسائل الإعلام أو من قِبَلِ سياسيين ودبلوماسيين غربيين بشكلٍ مباشر، يبدو واضحاً أنه يتم العمل أولاً على ترسيخ فكرة بسيطة! تقول إنَّ هناك حدّاً فاصلاً قلَبَ الأوضاعَ في أفغانستان بهذا الشكل الاستثنائي، وهذا الحدّ بالنسبة لهم هو سيطرةُ طالبان على كابُل، لتكون الصياغة المعتمدة عند الحديث عن أفغانستان تبدأ بـ (قبل/بعد سيطرة طالبان…) في محاولة لتحميل مسؤولية الواقع المأساوي لحركة طالبان وحدها، متجاهلين مسألتين؛ الأولى هي تلك النتائج العميقة لاحتلال وقصف هذا البلد من قبل الاحتلال الأمريكي وحلفائه لعشرين عاماً متواصلة، والثانية هي أنّ واشنطن ومنذ احتلال أفغانستان وإبعاد طالبان عن الحكم في عام 2001 حرصت على أن يكون الاقتصاد الأفغاني قائماً على المساعدات الخارجية الدورية (تقول التقديرات أنها تشكل 75% من الموازنة العامة) والتي توقفت بطلب من واشنطن «بعد سيطرة طالبان». بل إنَّ الأُولى لم تكتفِ بهذا الاجراء بل جمَّدتْ احتياطيّات المصرف المركزي الأفغاني في الخارج البالغة 9.5 مليار دولار.
تتحمّل حركة طالبان بلا شك مسؤوليةَ إدارة البلاد بعد سيطرتها على مساحاتها الشاسعة، ولكن لا يمكن تجاهلُ وجود عملٍ خارجيٍّ حَثيث لدفعِ البلاد باتجاه كارثةٍ اقتصادية وإنسانية حقيقية ترفعُ درجة التوترات الاجتماعية والأمنية، مما يضمن بالنسبة لواشنطن تفجير الوضع باتجاه حرب أهلية شاملة. وهو ما دفع حركة طالبان التي تسيطر اليوم على البلاد بحكم الأمر الواقع، إلى مناشدة الأمم المتحدة والدول الغربية، وأرسلت رسالةً مفتوحة لأعضاء الكونغرس الأمريكي لإعادة أموال بلادهم المنهوبة والتي يَرَون فيها مَخْرَجاً في الظرف الحالي.

الصورة بالتفاصيل!

حسب معطيات الأمم المتحدة يواجِهُ اليوم 55% من الشعب الأفغاني خطرَ المجاعة، أيْ حوالي 23 مليون إنسان. وبالإضافة إلى هذه الأرقام المفزعة قدَّرَت المنظمةُ الدولية أنَّ أفغانستان تحتاج إلى 4,4 مليار دولار بشكل مساعدات إنسانية عاجلة، وفي السياق ذاته يشير بعض العاملين في المجال الإنساني في كابُل إلى أنّ «امرأةً واحدةً من بين كلّ أربع نساء حوامل وطفل واحد من بين كل طفلين» يعانون من سوء التغذية في البلاد، كما أنّ نصف الأشخاص لا يعرفون من أين ستأتي وجبتُهم المقبِلة. أمّا صندوق النقد الدولي والذي رفضَ تقديم قرضٍ لكابل فقد توقَّعَ أنْ ينكمشَ الاقتصادُ الأفغاني بنسبة 30% وذلك بسبب الشُحّ الشديد في المساعدات الخارجية التي شكّلتْ العصبَ الأساسي للاقتصاد سابقاً.
هذا الوضع يضعُ حركة طالبان في موقفٍ شديد الصعوبة و يدفعُها للبحث عن المخارج، فقد لجأت الحكومة مؤخَّراً لدفع رواتب الموظفين الحكوميين بالقمح، وشمل هذا الإجراء أكثر من 40 ألف موظف على أنْ يتمَّ توسيعُه لاحقاً، ويحصلُ على هذا الأساس كلُّ واحدٍ منهم على 10 كغ من القمح لقاء يوم العمل الواحد. شكّل هذا الإجراء حلاً مؤقتاً لتأمين رواتب الموظفين الذين بدأوا يتركون عملهم تحت تأثير الضغوط الاقتصادية، وكانت أبرز هذه الحالات هي استقالة السفير الأفغاني لدى الصين بعد أنْ توقف مرتَّبُه الشهري لعدة أشهر.

ترتيب الأولويات أمريكياً

لا تستطيع واشنطن أنْ تخفيَ استراتجيَّتَها الحقيقية، فهي تحاول بشكل مفضوح خنقَ الشعب الأفغاني بهذا الشكل الإجرامي بغية استبعاد أيِّ دورٍ محتمَل للدولة من جهة، ورفع درجة الاستياء الداخلي مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويرفع الفاتورة على دول الجوار التي ستُضطَرُّ، حسب سيناريو واشنطن، إلى تحمُّل هذه الخسائر وإمداد كابُل بالغذاء والسيولة الكافية لضمان استمرار جهاز الدولة، أو أنْ تعاني من الفوضى التي لن تنحصرَ في حدود أفغانستان السياسيّة بل ستمتدّ إلى الدول المحيطة فيها مثل الهند والصين وروسيا وباكستان وإيران.
وفي هذا الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على تجويع 24 مليون مواطن أفغاني حتى الموت، وتهدد ثلثَ عدد سكان الكوكب بالفوضى والإرهاب، تحاول أنْ تتحكَّمَ بالرأي العام العالَمي حول هذه المسألة عبر اختزالها وتشويهها لتصبح بذلك مشكلاتُ أفغانستان تنحصرُ في كيفية إخراج أولئك المتعاملين مع الغرب من الداخل بعد أن تركتهم قواتُ التحالف خلفها، والمشكلةُ الأخرى التي تَلقَى معظمَ الأضواء هي نظرةُ طالبان المتخلِّفة للمرأة، والتي تُعَدُّ بلا شك مشكلةً حقيقية، ولكن الأهم في هذه اللحظة هو وقف الكارثة الإنسانية التي تهدِّدُ 97% من الشعب الأفغاني الذي لم يعد يستطيع تأمين أبسط حاجات البقاء، ففي الوقت الذي تُوقِفُ واشنطن فيه كلَّ المساعدات الخارجية وتسرقُ الاحتياطات الخارجية الأفغانية عبر حِرمان أصحابِها منها، يقومُ الرئيس الأمريكي جو بايدن بتعيين مبعوثة خاصة «من أجل السعي للنهوض بحقوق المرأة» لتكون بذلك الأمريكيّةُ المولودة في أفغانستان رينا أميري مبعوثةً خاصةً للخارجية الأميركية ووكالة الأمن القومي لتعمل على هذه «القضية الحساسة بالنسبة لواشنطن».
فالمطلوب بالنسبة لواشنطن وأتباعها الغربيين أنْ ينشغلَ العالَمُ بقيام نجومِ التفاهة الأمريكية أمثال كيم كارداشيان بتهريب لاعبات فريق كرة القدم الأفغانيات وعائلاتِهِم، ويتجاهل مصير 40 مليون آخرين، والأخطر من ذلك أنَّ ترتيب الأولويات هذا لا ينحصر في وسائل الإعلام، بل إنّ جدول أعمال قمة العشرين التي عُقِدَت لبحث الأزمة في أفغانستان انشغلت في قضايا مشابهة دون أنْ تتطرَّق إلى المشكلة الأساسية وهي تَحَمُّل نتائج غزو أفغانستان وتحطيم جهاز الدولة فيها وقطع الإمدادات عن شعبها لاحقاً، وهي مشكلةٌ سيكونُ بحثُها وحلُّها أكثرَ نفعاً من محاولات الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين إيصالَ المساعدات الإنسانية «دون أن يمسَّها أصحاب اللحى».