التوازن الدولي الجديد... «مقاربة نفسية»!
عماد طحان عماد طحان

التوازن الدولي الجديد... «مقاربة نفسية»!

لم يدم «شهر العسل» بين الولايات المتحدة وروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي أكثر من 10 أعوام. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن فإنّ الخط البياني للتوتر هو في تصاعد تدريجي مستمر، ليس مع روسيا وحدها، وإنْ كان يأخذ في الحالة الروسية شكلاً أكثر حدة (على الأقل لأنّ الحوار بين الطرفين هذه الأيام بات مدججاً بالسلاح وبالتهديد بالسلاح)، ولكن أيضاً مع الصين، حيث يأخذ أيضاً أشكالاً عسكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية متنوعة...

المدى الزمني للواقع القديم

جوهر المسألة في كل من الصراع الروسي الأمريكي/الغربي، وكذا الصيني الأمريكي/الغربي، هو أننا نعيش في خضم تحولٍ تاريخي في موازين القوى الدولية، تتراجع بموجبه قوى الغرب ومقدراته، والاقتصادية بالدرجة الأولى، بالتوازي مع تصاعد إمكانيات الشرق الاقتصادية-العسكرية، ممثلة بالصين وروسيا بشكل أساسي ومعهما طيف أوسع من الدول المحسوبة على «الشرق-الجنوب» السياسي.
يختزل البعض طبيعة التحول الجاري في موازين القوى، بأنه صعود جديد للصين وروسيا وبشكل تعاوني ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وعلى هذا الأساس يرى المسألة ضمن حدود العودة من الأحادية القطبية إلى الثنائية القطبية.
ما نعتقده هو أنّ المسألة أوسع بكثير وأعمق بكثير، وتشمل تحولات جرت وستجري أكبر منها في العالم بأسره وفي الصين وروسيا أيضاً؛ فما هو على المحك اليوم ليس مجرد توازن بين «دول» و«أنظمة» حول العالم، بل مجمل منظومة العلاقات الدولية الاقتصادية-الاجتماعية بالدرجة الأولى، وتالياً السياسية والعسكرية والثقافية.

بكلام أكثر تحديداً، فإنه رغم وجود الاتحاد السوفياتي خلال 70 عاماً من القرن العشرين، ووجود صينٍ يحكمها حزب شيوعي، إلا أنّ منظومة العلاقات الاقتصادية التي سيطرت على العالم هي في جوهرها منظومة الاستعمار الغربي التي سيطرت طوال أكثر من أربعة قرون مضت، سواء بشكلها الأولي التقليدي، أو لاحقاً بشكلها الجديد الاقتصادي الذي أرسيت دعائمه أواسط الستينيات والقائم على التبادل اللامتكافئ والدولار عملة عالمية، وأكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم.

ما هو على المحك هو البنية التحتية المالية (الدولارية)، والجيوسياسية أيضاً، والتي يقوم عليها مجمل النظام الدولي الراهن؛ فما نراه من أزمات «سلاسل التوريد» وأزمات الطاقة والأزمات المالية وغيرها، ليست إلا مظاهر لجوهرٍ بين أهم عناصره إعادة ترتيب طرق التجارة العالمية بأسرها عبر إنهاء سطوة الغرب التي اعتمدت تاريخياً على التجارة البحرية، وعلى محاصرة القوى القارية، ومنعها من أي تقارب فيما بينها عبر شتى الوسائل... إعادة ترتيب دعامتها الأساسية دمجُ مشروعي الحزام والطريق والمشروع الأوراسي، ووصولاً إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بالتوازي مع العمل التدريجي على إنهاء الإحداثيات السياسية التخريبية التي رست طوال قرون في بلدان «العالم الثالث».

بهذا المعنى، فإنّ التحول التاريخي الذي نعيشه هو تحول انعطافي يتضمن تغييراً كبيراً لأساساتٍ استمرت تتحكم بالعالم ليس لعشر سنوات أو ثلاثين سنة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بل لما يزيد عن أربعة قرون؛ منذ انطلاق حملات الاستعمار الأوروبية نحو شتى أصقاع العالم.


مراحل الإنكار والتعافي

رغم أنّ مقاربة الوقائع التاريخية والسياسية خاصة من وجهة نظر نفسية هي تبسيط كبير لها لا يمكنه أن يمسك بجوهرها، لكنها قد تساعد أحياناً في تسليط ضوءٍ كاشف على جوانب من ذلك الجوهر.
ضمن هذا السياق، فإنه يمكن تشبيه مراحل تعاطي الغرب والأمريكان مع التحول الجاري، التحول الذي يهز ويغير أساساتٍ بقيت راسخة لقرون طويلة، بمراحل تعاطي الفرد بالمعنى النفسي حين يتعرض للصدمة.
هذه المراحل هي أربعة على العموم، وهي متداخلة فيما بينها؛ أي أنّ الانتقال من إحداها إلى الأخرى يجري بشكلٍ تراكمي، ودون حدودٍ شديدة الوضوح:
1- الذهول والإنكار: في هذه المرحلة يرفض المصدوم تصديق الواقع رفضاً سلبياً؛ حيث ينكر وقوعه ويتجاهله، ويحاول متابعة حياته كأن شيئاً لم يكن، وذلك كتعبيرٍ عن عدم استعداده وعن خوفه من التعاطي مع الواقع المستجد ومع نتائجه.

2- الغضب: يستمر الإنكار، ولكن تنتهي مرحلة الذهول والسلبية وعدم التصرف، وينتقل المصدوم للتعبير بشكل فعالٍ عن إنكاره للواقع الجديد، ويسوده الغضب في هذه المرحلة، والذي يتصاعد بشكل مطردٍ مع كل ما يقوم به من سلوكيات يحاول من خلالها تأكيد أن الواقع السابق لم يتغير، والتي بطبيعة الحال تنتهي بالفشل مراكمةً مزيداً من الغضب والتوتر.

3- الإرهاق والمساومة: تبدأ جرعات الغضب العالية بإرهاق المصدوم، وتبدأ قدرته على إنكار الوقائع وتجاهلها بالتناقص، ولكنه يستمر منكراً وغاضباً. عند هذا الحد يبدأ بدخول مرحلة المساومة والتي يتقبل فيها أجزاءً من الواقع الجديد، ضمن افتراض أنها موجودة فقط لأنه «تسامح» مع وجودها، ولكنْ على أنّ الواقع القديم يجب أن يُستعاد، كما كان تماماً، أو جزئياً على الأقل.

4- القبول: بعد قدرٍ كافٍ من الإرهاق ومن تراجع القدرة على العيش في واقع لم يعد موجوداً، وبعد قدرٍ كافٍ من فرض الواقع الجديد لنفسه ليس كحدثٍ عابر بل كأساس لنتائج ووقائع جديدة تتوالد بشكل يومي ولا يمكن الالتفاف عليها بأي شكل، يصحو المصدوم في نهاية المطاف من صدمته بشكل كاملٍ، ويقرّ بالواقع الجديد ويبدأ بالتعامل على أساسه.

ضمن هذا التشبيه «النفسي»، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة، والغرب عموماً، يعيشان الآن في مكانٍ ما بين المرحلتين الثانية والثالثة...