العسكرة نتيجة للانحدار المستمر ومرتبطة به
راينر شيا راينر شيا

العسكرة نتيجة للانحدار المستمر ومرتبطة به

بدأ الانحدار في الإمبريالية الأمريكية قبل وقت طويل من أن يصبح من الواضح للجميع أنّ نفوذ واشنطن العالمي يتراجع. يعود الأمر إلى منتصف القرن العشرين، في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تقود التفكك التالي للحرب العالمية الثانية.

ترجمة: قاسيون

في 1949 خسرت الإمبريالية الصين للشيوعيين، وهو الحدث الذي أدّى في وقت لاحق إلى بداية إنتاج العالم متعدد الأقطاب بقيادة الصين. كان على الإمبريالية أن تمر بانتكاسات إضافية أيضاً بعد فترة وجيزة من ذلك، منها حروب «الهند الصينية: فيتنام ولاوس وكمبوديا وتايلاند وميانمار» التي تورطت فيها واشنطن. حتّى عندما حققت الإمبريالية انتصارات كبيرة، مثل النجاح في تنفيذ العديد من الانقلابات المناهضة للشيوعية، والتصدير غير المسبوق لرؤوس الأموال إلى البلدان الطرفية، فمع كلّ انتصار كانت تظهر المزيد من التصدعات في الهيمنة الأمريكية.
كانت الانتصارات المناهضة للأمريكيين قد أجبرت رأس المال على الانكماش. كانت خسارة واشنطن للحرب في فيتنام مكلفة بدرجة كافية أدّت لانهيار النظام النقدي العالمي الذي تأسس في بريتون وودز، ما ساهم في الأزمة الاقتصادية في السبعينيات. في ذلك الوقت أيضاً، حتّى المملكة السعودية قامت بفرض حظر نفطي نتيجة الدعم المستمر للولايات المتحدة «لإسرائيل».
بحلول 1970، تقلصت حصّة الولايات المتحدة من الثروة العالمية إلى الربع، وهو سقوط حاد ممّا كانت عليه في ذروة الإمبريالية. كانت هذه الأزمات الإضافية كافية لترك القبضة المالية للإمبريالية في وضع محفوف بالخطر، ما دفع رأس المال لاتخاذ تدابير صارمة للنجاة. تمّ تطبيق النيوليبرالية لتعويض تراجع الأرباح، عبر تكثيف استغلال الطبقة العاملة. تمّ إنشاء نظام البترودولار، ما وفّر هيمنة الدولار عبر تحويل ارتباطه من سلعة الذهب إلى النفط.

الحروب الاستباقية

تمّ استباق هذا الترتيب الاقتصادي الجديد بتقديم مفهوم الحروب المستمرة، والذي سيهيمن في وقت لاحق على الكيفية التي تعوّض فيها الولايات المتحدة عن انهيارها. خلال فترة ما بعد الصراع في كوريا، كانت الإمبريالية مضطرة لانتهاج الحرب الدائمة من أجل الحفاظ على رأس مالها.
قامت واشنطن بكلّ ما يمكنها للانتصار في الحرب الكورية، فدمرت جميع المناطق الحضرية، ومسحت عن وجه الأرض ربع السكان على الأقل، لكنّها لم تتمكن من الفوز في النزاع. كان هذا ليترك سابقة بالنسبة لجميع الشعوب التي تريد التخلص من الدولة الرأسمالية التي تحكمها، ولهذا كان لا بدّ أن تبقى كوريا الجنوبية قائمة بأيّ ثمن، وأن تبقى الحرب دائرة حتّى لو بشكل غير فعلي.
توقّف القتال في كوريا، ولكن لم يتم توقيع أيّ معاهدة، واستمرّت الولايات المتحدة ببناء وحشد القوات العسكرية لمناهضة كل من كوريا الشمالية في العلن والصين بشكل ضمني. تمّ تجريم كلّ من يعيش في كوريا الجنوبية ويعبّر عن التعاطف مع الشمالية.
حُرم أهل الجنوب من إطار مرجعي لظروفهم المعيشية. فعندما تكون الروايات الوحيدة المسموح لك سماعها عن كوريا الشمالية هي التي تتضمن قصصاً عن منشقين مأجورين يتحدثون عن الديكتاتورية والحرمان الشديد والانتهاكات لحقوق الإنسان، فلا توجد طريقة تجريبية لإثبات أنّ الاشتراكية الكورية قد وفرت مستوى معيشي أفضل من النموذج النيوليبرالي الموجود في الجنوب. وتنطبق هذه «الرقابة» على جميع الدول التي تصعد فيها الاشتراكية، التي يجب تصويرها بشكل لا يثير أيّ غيرة أو تعاطف.
كان ربط مصالح الطبقة العاملة في بلدان الجنوب بالإمبريالية عاملاً آخر لإضعافهم، وإعاقة التضامن بين البروليتاريا في البلدان التي يتمّ استغلالها.

السوفييتات وما بعدها

بحلول بداية الحرب الباردة، كانت ديناميكية العزلة داخل بيئة مناهضة للشيوعية، قد تمّت هندستها بالفعل في جميع أنحاء الكتلة الإمبريالية. تمّ التعتيم على دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة دول المحور، وتمّ تثبيت أسطورة أنّ الهجمات النووية الأمريكية هي من هزم اليابان، وأنّ هجمات النورمندي هي التي هزمت ألمانيا.
كان على الحرب أن تستمر، ومع ظهور ما سيصبح وكالة المخابرات المركزية بعد سنوات قليلة، أنشأ الإمبرياليون شبكة دعاية سرية واسعة مصممة لتشويه صورة الشيوعية، لتكون رديفاً لقمع الماركسيين في قلب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
حتّى بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، لم يكن بإمكان الإمبريالية أن توقف حروبها والعسكرة المستمرة. فلم تخرج الولايات المتحدة من كوريا ولم تترك الناتو أو تلغِ المخابرات المركزية. لم تغيّر موقفها المعادي من كوبا، وبدأت حرباً جديدة في الخليج العربي، وحشدت تابعيها لإطلاق الحرب في يوغسلافيا، وزرع التوترات العرقية في كامل أوروبا الشرقية.
ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتّى وصلنا إلى القرن الحالي، والذي كانت الإمبريالية فيه مضطرة لتصعيد حروبها باستهلالها بأفغانستان، ثمّ العراق وصولاً إلى ليبيا وسورية، وتشديد العقوبات الاقتصادية والعقابية. وتمّ تبرير التكاليف الإنسانية لهذه المناورات على أنّها ضرورية، وتعزيز الدعاية الإمبريالية على أساسها.
تصبح جميع الدول والأنظمة التي لاتتمكن الهيمنة الثقافية الأمريكية من إحكام قبضتها عليها، وحشية ودكتاتورية وليس فيها ما يغري الغربيين «المتحضرين»، وذلك رغم معاناة هؤلاء الغربيين من انتشار الجوع والديون والإسكان المتدني والتشرد وعدم الحصول على الرعاية الطبية ووحشية الشرطة وغيرها من أشكال الظلم.

الأهداف والعسكرة والتناقضات الجديدة

مع معاناة الإمبريالية من الانحدار، يتعزز ميلها ناحية الترويج للعسكرة، ومعها شيطنة كلّ من لا يخضع لهيمنتها. من هنا نرى في الوقت الحالي أنّ الصين هي الهدف الرئيسي لدعاية الإمبريالية. تستمر محاولة نشر صورة الصين بوصفها النظام الأكثر شراً في العالم، وتمتدّ هذه الدعاية إلى الدول التي تنفذ فيها الصين مشاريع تنموية، لتصبح هذه الدول دكتاتورية ولا تراعي حقوق الإنسان. ينطبق الأمر ذاته على إيران وروسيا اللتان يتمّ تصويرهما كونهما قوتان خطيرتان يجب وضع حدّ لأنشطتهما الدولية.
بالنسبة للإمبريالية، هناك أولوية هي تخريب صعود الصين ومعها العالم متعدد الأقطاب، وذلك ضمن إطار هندسة انهيار الحضارة اللازمة لبقاء الإمبريالية. وتتوسع منطقة التضحية بالحضارة حيث يتم استهداف روسيا من قبل نظام أوكراني تابع للولايات المتحدة.
يتماشى هذا التصنيع العالمي للأزمات مع العسكرة المتزايدة للولايات المتحدة داخل الجنوب العالمي، وداخل البلدان الإمبريالية نفسها، وهو السبيل الوحيد للإمبريالية للتعامل مع عالم تنحدر فيه وتفقد سلطتها ونفوذها فيه.
لكن مع الاستثمار المتزايد في الحرب، تتضاعف التناقضات الإمبريالية في داخل بلدانها وخارجها. فالتوسع غير المسبوق في الإنفاق العسكري الأمريكي يتزامن مع كساد طويل الأمد، ومع لا مساواة متنامية زاد الوباء من سوئها. خلال العامين الماضيين فقط تمّ دفع عشرات ملايين البشر إلى الفقر المدقع، وساءت ظروفهم أكثر بسبب التخفيضات في الأجور والخصخصة والتقشف المفروض من قبل الإمبريالية منذ وقت طويل.
ليس بإمكان الإمبريالية تحمّل آثار النيوليبرالية، ولكنّ البرجوازية لم تكن لتتمكن من النجاة في السبعينيات والبقاء في السلطة دون تحوّل الرأسمالية إلى طورها الحالي. ولهذا فالتناقض يزيد، والعسكرة المتزايدة التي يوصي البنتاغون باعتمادها كخطط استجابة لانحدار الإمبريالية، هي ذاتها الخطط التي تؤدي لتدمير البيئة وزيادة سوء أوضاع الجماهير. لكن ليس أمام البرجوازية خيار سوى زيادة العسكرة في الخارج، وكذلك داخل حدود البلاد الإمبريالية.
إنّ أيّ شيء يهدد نظرياً رأس المال الأمريكي يصبح تهديداً للأمن القومي الأمريكي. تتظاهر الإمبريالية بأنّها بإمكانها الاستمرار بالعسكرة إلى مالانهاية، وبأنّ الرأسمالية لا مفرّ منها ولا بديل لها. لكنّ الإمبريالية تصبح أكثر فأكثر حبيسة رأس المال الاحتكاري والدعاية والقمع الذي يخشى الثورة بسبب تدهور أوضاع الشعوب في البلدان الإمبريالية منذ أجيال. المجهود الحربي ودعايته تتمحور حول محاولة منع الجماهير من القدرة على تخيّل مستقبل لا رأسمالية فيه، ولهذا فالعسكرة والانحدار متزامنان.

بتصرّف عن: The role of continuous warfare in the age of imperial decline

 

آخر تعديل على الثلاثاء, 18 كانون2/يناير 2022 21:29