سورية تنزف أطباءَ ومرضى بينما يستمرّ «التطنيش والتطفيش»
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

سورية تنزف أطباءَ ومرضى بينما يستمرّ «التطنيش والتطفيش»

قالت تقارير دولية بأنّ خسارة سورية لكوادرها الصحية التي هاجرت منذ بداية الأزمة سنة 2011 حتى أواسط 2021 تقدَّر بنحو 66% من جميع عمال القطاع الصحي ونحو 70% من الأطباء. وخلال الشهر الأخير من السنة المنصرمة، استجدّت مؤشرات خطيرة على تسارع تدهور القطاع الصحي في البلاد، ولا سيّما نداءات الإنذار والاستغاثة التي أطلقت حول نقص الأطباء، وخاصة أطباء التخدير، عبر تصريحَين بفاصل أيام وبرقمين مختلفين ولكن كلاهما خطيران، سواء كان المخدِّرون الذين بقوا في البلاد 500 أم 700، فقد قيل إنّ سورية تحتاج على الأقل ثلاثة أضعافهم، وإلا ستتوقف العمليات الجراحية. ولم يكد يمضي أسبوعان على ناقوس الخطر حتى أغلق «مشفى التوليد وأمراض النساء الجامعي بدمشق» أبوابه بوجه أي حالات مرضية إسعافية، موقفاً جميع القبولات منذ الأربعاء 10-1-2022 بسبب نقص أطباء التخدير، مع قبول بعض الحالات البسيطة فقط.

لا شكّ بأن مشكلة خسارة سورية لأطبائها لا تقف عند اختصاص التخدير وحده، ولو أنّ حساسية هذا الاختصاص المرتبط مباشرة بالعمليات الجراحية، جعله تحت الضوء أكثر من غيره.

وبالنسبة لأسباب نزيف العقول والمهارات الطبية من سورية، فإن عمقها يعود في الحقيقة إلى ما قبل 2011 بسبب انتهاج السياسات الليبرالية المدمّرة لكل إنتاج حقيقي وتقدم، وبيع «الأمن القومي الصحي» في سوق التربّح من المرض والمتاجرة بالعلاج، وتوغّل الخصخصة وتدهور الطبّ والتمريض حتى على المستوى الأكاديمي والتدريبي الجامعي.

لتنفجر الأزمة في 2011 ويبدأ طور أقسى من ضغوطات ومخاطر سنوات الحرب، وصولاً في السنوات الأخيرة إلى تزايد أهمية العامل الاقتصادي المعيشي الذي استمر بالتدهور وتسارع رغم انتهاء المعارك الميدانية الكبيرة.

وعلى الرغم من أنّ مهنة الطب بعد فترة معيّنة من ممارستها تجعل الطبيب يعمل لحسابه عبر عيادته الخاصة، لكنّ أغلبية الأطباء يبقون معتمدين في معيشتهم جزئياً أو كلياً على العمل لدى «رب عمل» أي بوصفهم عمالاً بأجر سواء خلال السنوات غير القليلة من فترة التدريب (أطباء مقيمين) أو بعد التخصص كموظفين في المشافي الحكومية أو الخاصة. وبالتالي، رغم الأفضلية النسبية التي يتمتعون بها بمستوى دخلهم كعمال «ياقات بيضاء» مقارنة بباقي العمال، لكن التدهور الاقتصادي الكارثي في سورية والجور الهائل في توزيع الثروة والرفع الجنوني للأسعار والخدمات، جميعها لعبت دوراً «تطفيشياً» هائلاً للأطباء كما لكثير من شرائح المجتمع. وتجدر بالملاحظة أيضاً مشكلة خصوصية نظرة المجتمع للطبيب وتوقّعاته منه، التي تجعل من الصّعب عليه غالباً – بخلاف كثير من المهن الأخرى – أن يعمل بغير مهنته إذا اضطر لذلك، مما يدفعه للسفر. يضاف إلى ذلك أزمة الوباء التي زادت قساوة وضغوط العمل، دون أنْ تقدّم الدولة أيّة حوافز مجدية «لصمود» كوادرها الصحية أمام أزمة مركّبة اقتصادية ووبائية. وبالطبع هناك عوامل الجذب الخارجي وعلى رأسها الأجور الأعلى والاستقرار على الطرف الآخر في البلاد التي يقصدها الأطباء للعمل في أوروبا أو الخليج العربي مثلاً.

 

التخدير مثالاً

نبّهت رئيسة رابطة التخدير وتدبير الألم في نقابة الأطباء، زبيدة شموط إلى النقص في اختصاصها بحيث لم يبق سوى 500 طبيب تخدير في كل سورية (تصريحها لـ«الوطن» في 24 كانون الأول 2021). ولفتت إلى أن الأطباء يغادرون البلاد، ما ينذر بخطر كبير، وأنّه بالتالي هناك ضرورة على الأقل لزيادة تعويض الاختصاص لأطباء التخدير إلى 300%، ورغم أنها نوهت بأن ذلك «يُدرس حالياً في اللجنة الاقتصادية» في مجلس الوزراء، وكذلك مقترح «فصل وحدات التخدير عن الوحدات الجراحية» ووجوب تحسين وضعهم في المشافي الخاصة حيث قالت إن حيتان المال تمتص دم طبيب التخدير – لكن لا يبدو أنّ الحلول المقترحة والمعروفة منذ زمن، اعتبرت شيئاً «خطيراً» من جانب المسؤولين الذين ما يزالون «يدرسون» و«ينتظرون» بينما «الفأس تقع بالرأس» بدليل بدء إغلاق أوّل مشفى (دار التوليد الجامعي بدمشق) بسبب انفجار هذه المشكلات المتراكمة بلا تقديم حلول حقيقية، بل الاكتفاء بالتغني بـ«إنجازات» مثل «الهيليكوبتر الإسعافي»...

عدد طبيبات التخدير في سورية أكثر من الأطباء لأنّ أغلب الأطباء الشبان غادروا البلاد، والنسبة الكبرى من أطباء التخدير بين 55 إلى 65 عاماً وهم في مرحلة التقاعد، ويوجد فقط ثلاثة أطباء تحت الثلاثين من العمر، كما لا يوجد مقيمون منهم سوى 4 أطباء. وكل من سيتخرج حالياً من المتوقع أن يغادر البلاد وبالتالي نحن في تدهور مستمر، وفق تصريحات الدكتورة شموط. وأوضحت بأنّ مشفيي الزهراوي والتوليد الجامعي في دمشق ليس فيهما أطباء تخدير ويتم تخديمهما عبر مناوبات من مشفيي المواساة والأسد الجامعي.

وفي اليوم الثاني من العام الجديد 2022 أكد عضو نقابة الأطباء الدكتور زاهر بطل أنّ هناك محافظات ليس فيها أيّ أطباء تخدير «مثل الرقة ودير الزور وإدلب»، وباختلاف عن تصريح الدكتورة شموط، ذكر الدكتور زاهر رقم 700 وليس 500 كعدد إجمالي لأطباء التخدير الباقين في البلاد.

 

بعض مؤشرات التدهور 2020

يُصدر «نظام مراقبة توفر الموارد والخدمات الصحية» التابع لمنظمة الصحة العالمية والمعروف اختصاراً باسم HeRAMS تقارير دورية عن بلدان العالم. وآخر تقرير رسمي له عن سورية يصل إلى نهاية 2020. ومع ذلك من المفيد الاطلاع على بعض ما جاء فيه.

قال التقرير المذكور إنه في 2020 كانت 5 محافظات سورية فقط تحقق الحد الأدنى لعدد الكوادر الصحية في المشافي العامة (والمحدّد بأكثر من 22 كادر لكل عشرة آلاف من السكان، بما فيهم الأطباء والتمريض والقابلات)، وهي المحافظات التالية: دمشق، اللاذقية، طرطوس، السويداء، القنيطرة. أما باقي المحافظات فانحدرت تحت الحد الأدنى المذكور. كما وتعاني سورية كوسطي إجمالي من نقص الكوادر تحت هذا الحد الأدنى.

بالنسبة لتوافر أسرة المشافي العامة من أجل التوليد ورعاية الأم، بالكاد تصل سورية إلى الحد الأدنى العالمي الذي حدده التقرير بـ 10 أسرة مشافي (توليد وأمومة) لكل نصف مليون من السكان. مع ملاحظة أنّ المحافظات الأسوأ التي انحدرت تحت هذا الحد الأدنى هي: حلب (الأسوأ على الإطلاق) تليها دمشق، ثم دير الزور.

 

الحل السياسي لاستعادة العقول والقلوب

لا شكّ بأنّ عدداً مهماً من الكوادر الطبية والصحية التي غادرت البلاد استطاعت أن تحقق لنفسها حياةً مستقرة وكريمة في الخارج، وعلى الرغم من أنه يمكن التفكير بحلول «إسعافية» عبر «استيراد» كوادر طبية من الخارج، سواء من السوريين أو غيرهم، لكنْ مع سياسات «تطفيش الذين بقوا» المستمرة والمتصاعدة حتى الآن، لا يبدو أنّ هناك نيّة حتى لاتخاذ قرار كهذا. لذلك يبقى الحلّ المستدام والحقيقي هو الحلّ الجذري، الذي يبدأ بالحلّ السياسي للأزمة عبر التطبيق الكامل للقرار 2254 لتمكين السوريين من تقرير مصيرهم بأنفسهم بحيث تستطيع سورية توفير الحدود الدنيا من الأمان والثقة والأمل بمعانيها الواسعة للحفاظ على ما تبقى من أبنائها واستعادة اللاجئين والمغتربين، فلا استقرار ولا إعمار بلا تطمين قلوبهم أولاً بما يتيح عمل سواعدهم وعقولهم بكرامةٍ لإنقاذ بلادهم.

 

 

آخر تعديل على الأربعاء, 12 كانون2/يناير 2022 14:02