ما هو موقع الشعب السوداني في الصراع العالمي؟
ما الذي يجري في السودان؟ يشكّل هذا السؤال أولى النقاط الخلافية في هذا الملف في المجتمع الدولي، وينعكس هذا الخلاف السياسي على وسائل الإعلام بطبيعة الحال. وفي الوقت الذي يجري فيه تسويق فكرة أن التباينات والاختلافات في المجتمع الدولي حول توصيف ما يجري ما هي إلا انعكاس للصراع الدولي لا أكثر، ينبغي التذكير بأن الشعب السوداني هو أكثر المعنيين بهذا الانقسام.
يتردد كثيراً أن الأحداث الجارية في السودان حتى اللحظة هي تعبير مكثف عن صراع دولي، ومن هذه الفكرة الصحيحة تبنى فكرة أخرى خاطئة، وهي أنّ الشعب السوداني سيكون بالضرورة ضحية لهذه المبارزات الدولية، وللردّ على هذه الفكرة ينبغي أولاً توصيف الأطراف المتصارعة في السودان.
ما هي ملامح «القديم» الذي ينبغي تغييره؟
التناقض الأساسي في السودان هو بين منهوبين وناهبين بغض النظر عن لبوسهم وأسمائهم السياسية، وبغض النظر إن كانوا «مدنيين» أم «عسكريين». لكن أقطاب الصراع الدائر حالياً لم تكن إلا جزئياً تعبيراً عن هذا التناقض الأساسي، فعندما خرج الشعب السوداني إلى الشوارع في نهاية 2018 كان يعبّر عن ضرورة التغيير العميق المطلوب، ومع إزاحة الرئيس السابق عمر البشير عن الحكم من قبل لجنته الأمنية المشكَّلة من القوى العسكرية الأساسية في البلاد وصولاً إلى تشكيل المجلس السيادي السوداني والحكومة التي نتجت عنه، إلى أنْ جرى حلّها مؤخراً، بدأ السودان يشهد تغييرات سياسية في هياكل الحكم دون أن يجري التغيير العميق المطلوب؛ فبنية النظام السوداني تميّزت بملامح عامة أساسية ولا يمكن الحديث عن تغيير فعلي إذا لم يلمس الشعب السوداني تغيراً في هذه الملامح وهو ما لم يحصل حتى اللحظة. فما هي هذه الملامح الأساسية؟
يوضع الإطار الوطني السوداني على رأس هذه القائمة، فالسودان خسر شطره الجنوبي ويعيش حالة مستمرة من النزاعات الأهلية المسلَّحة في مناطق متفرّقة من البلاد. وشكّلت هذه العناصر تهديداً مضاعفاً على وحدة ما تبقى من السودان، أي أنّ مشكلة السودانيين الأولى أنهم يعيشون في كيانٍ بات وجوده مهدداً.
وإلى جانب هذه الأخطار الوجودية جرى نهب السودان من قبل الغرب بشكلٍ ممنهج عبر وسطاء سودانيين وجرى تجويع أبنائه وإفقارهم فتزايدت نسبة البطالة والتهميش وجرى تكبيل عملية الإنتاج بكل أشكالها لتحويل أراضي السودان الخصبة إلى ساحات قتال وجرى تحويل عمّاله وفلاحيه إلى وقود لهذه النزاعات، ومرتزقة في حروب خارجية لا علاقة للسودانيين بها، وجرى ابتزازه عبر وضعه على قائمة الإرهاب وتحويله إلى بلد يعيش على المساعدات والقروض الغربية ذات الشروط السياسية المعروفة. جاء هذا كله إلى جانب تعطيل الحياة السياسية وتغييب قواها الوطنية الفاعلة عن الساحة عبر قمعها وإغراق البلاد في السلاح الذي طغى صوته لفترات طويلة على صوت هذه القوى.
كيف يمكن قراءة مواقف القوى المتصارعة؟
تفجَّر الخلاف بين مكوّني مجلس السيادة السوداني المدني والعسكري بعد تفاقم الخلافات التي لم تتوقف منذ تأسيسه، وفي الحقيقة لم تظهر إلى العلن أي تمايزات واضحة في مواقف «المدنيين» أو «العسكريين»، فكلا الطرفين ساهما في ترسيخ السياسات الليبرالية التي أوصلت أوضاع السودانيين إلى هذه المرحلة، وكلا الطرفين ساهما بشكلٍ واضح في اتفاقية التطبيع سيئة الذكر مع الكيان الصهيوني، ولم يُظهِر أيٌّ منهما أيَّ توجّه جدّيٍّ لإرساء المصالحة الوطنية منعاً لتفتيت البلاد. وعلى الرغم من هذه المواقف التي تبدو متطابقة، شكّل الموقف من خطوة العسكريين في 24 من شهر تشرين الأول الماضي نقطة خلافية على الساحة الدولية مما أعطى إشارة جدية إلى أن القوى الإقليمية والدولية ترى تمايزاً في بنية مكونات المجلس السيادي، مما أخّر بيان مجلس الأمن الذي فشل عدة مرات في التوافق على بيان حول الأحداث الأخيرة في الخرطوم، ليخرج بعدها بيانه في 28 تشرين الأول، والذي يوصّف ما جرى في السودان بوصفه «سيطرة على السلطة» لا انقلاباً، بالإضافة إلى تأكيده «ضرورة الالتزام بالوثيقة الدستورية واتفاق السلام في جوبا» ودعا السلطات العسكرية إلى «إعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية على أساس الوثيقة الدستورية وغيرها من الوثائق التأسيسية للمرحلة الانتقالية».
التبنّي العسير لهذا البيان لا يعني إنهاء حالة الانقسام في المواقف تجاه ما يجري في السودان وإنما يعكس ميزان القوى الدولي الذي أعاق توصيف ما يجري بالانقلاب وخفّف من حدّة الخطاب تجاه العسكريين. لكن السؤال الأهم يبقى حول جذر اختلاف مواقف الدول من خطوة العسكريين.
ما يمكن قراءته حتى اللحظة
بعد إطاحة العسكريين بالرئيس السابق عمر البشير دخل السودان في فترة قلقة رسمت ملامح جديدة لعلاقته مع العالم، كان أبرزها عودة السودان رسمياً وبشكلٍ تدريجي إلى حضن «البيت الغربي» وجرى ذلك عبر إعادة فتح باب الإقراض ورفع العقوبات وإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية وغيرها من الإجراءات. كل هذا دفع المراقبين إلى البحث عن الثمن الذي توجَّبَ على السودان دفعه مقابل هذا «العفو الغربي» وبدا للوهلة الأولى أن تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني كان هو الثمن. لكن الأحداث اليوم تشير إلى أن التطبيع لم يكن إلا الجانب المعلن من المسألة، فالمكون العسكري كان السبّاق إلى التبجح بالعلاقات مع الكيان الصهيوني ولم يظهر أي مؤشر على عدوله عن التطبيع، ومع ذلك يبدو الغرب قلقاً جداً من تفرّده بالسلطة وإخراج المكون المدني منها. التفسير الأولي لكل هذا يكمن في الجزء الخفي من الثمن الذي دفعه السودان للغرب وواشنطن، وإن كان من الصعب الجزم في هذه المسألة لكن يمكننا القول بأن الغرب يشعر بارتياح أكبر تجاه المكون المدني برئاسة عبد الله حمدوك، وهو الذي نشأ ضمن المؤسسة الغربية نفسها ويعد من المقربين منها. مما يجعله أقرب لبناء علاقات مع الغرب وواشنطن على حساب روسيا والصين مثلاً، ومن هنا جاء رفع السودان عن قائمة الإرهاب وغيرها من التسهيلات فرصةً لاستعادة هذه العلاقات ودفع العلاقات مع روسيا والصين إلى نوعٍ من الفتور، هذا بالإضافة إلى بعض المؤشرات القادمة من مصر والتي تضع إشارات استفهام على موقف حمدوك من ملف سد النهضة وتبدي ارتياحاً ضمنياً اتجاه خطوة الجيش السوداني. ويبدو أن القائمة تطول لتشمل خلافات في المواقف بين المكونين «المدني» و«العسكري» تتمحور حول طبيعة علاقة السودان مع العالم، وإنْ كان لا يزال بعضها مجهولاً لكنه سيظهر قريباً.
باب التأويلات واسعٌ جداً والأحداث لن تتأخر كثيراً حتى تكشف أسرارها؛ فالمواقف والاصطفافات السياسية لا يمكن إخفاؤها طويلاً، السلطة اليوم بيد الجيش السوداني الذي يتعرض لضغوط خارجية وداخلية ويمكن من هذه الزاوية بالذات كسب الداخل كدعم بمواجهة الضغوط الخارجية، لكن الفيصل في هذه المسألة هو دور الشعب السوداني والقوى السياسية الوطنية الجدّية التي يمكنها أن تقدّم مخرجاً وتفتح الباب أمام التغيير بما يساعد في حسم موقع السودان في الصراع العالمي ليكون في المكان الذي يلبي مصالح شعبه، أي حتماً بعيداً عن المعسكر الغربي وواشنطن.