أزمة الديمقراطية الليبرالية «اللي مايشوف من المنخل أعمى»
مارتين وولف مارتين وولف

أزمة الديمقراطية الليبرالية «اللي مايشوف من المنخل أعمى»

الديمقراطية الليبرالية، أو الديمقراطية الرأسمالية، في أزمة عالمية لا يمكن نكرانها. حتّى أعتى المدافعين عنها يتحدثون عن أزمتها. يتمكن الاقتصادي مارتين وولف في مقالٍ حديث له، من تشريح أزمة الديمقراطية الليبرالية بشكل ممتاز، ولكنّه – مثل جميع الاقتصاديين الرأسماليين، وهو المعلّق الاقتصادي الرئيسي في كبرى صحفهم «فاينانشال تايمز» – غير قادر على أن يكون مبدعاً عند الوصول للاستنتاجات، فيبدأ باجترار كلمات وأفكار «مثالية» تتناقض مع مضامين تشخيصه. إليكم أبرز ما جاء في المقال:

ترجمة: أوديت الحسين

لم يكن هناك ديمقراطيات قبل قرنين، وحتى في الأماكن التي وجدت فيها الجمهوريات كان الوصول للسلطة مقيداً باعتبارات الجنس والعرق والثروة. ثمّ في القرن التاسع عشر بدأت الديمقراطيات الليبرالية بالتوسّع، لتغطي نصف العالم في عام 1990.
حدث ذلك بسبب التزاوج بين الاقتصاد الليبرالي والسياسات الديمقراطية. من هذا المنطلق، الرأسمالية والديمقراطية هما «متضادان متكاملان».
أين التكامل بينهما؟ كلا الديمقراطية والاقتصاد السوقي لا يقيمان من حيث المبدأ اعتباراً للامتيازات الوراثية، وكلاهما يعتمدان على مُثل الحرية الفردية، وحرية العمل، والمكافأة على العمل، واحترام القانون.
أين التناقض بينهما؟ الرأسمالية عالمية، بينما الديمقراطية محدودة بإقليم. الرأسمالية لا تتقبل المساواة «دولار واحد = صوت واحد»، بينما الديمقراطية تنادي بالمساواة «شخص واحد = صوت واحد».
من هنا كان لا بدّ من التوتر بين المفهومين أن يظهر حتمياً.

ما المشكلة في الديمقراطية الرأسمالية؟

الزيادة الكبيرة في اللامساواة، وتدهور الآفاق بالنسبة للطبقة العاملة والطبقة الوسطى في الديمقراطيات الرئيسية، كان بمثابة كسر لأسس الديمقراطية.
أدّى الضعف في الحركيّة الاجتماعية «قدرة الانتقال على السلّم الاجتماعي» إلى وضع القلق والتهكم والاستخفاف بالسياسة، ليقوم بعدها السياسيون الانتهازيون الماهرون بتحويل الأمر إلى استياء ثقافي وعرقي، ولا سيّما في المجتمعات المتنوعة عرقياً.
ليست هذه الصيحة جديدة، فقد كانت الأساس للفاشيّة الأوروبية من قبل.
سهّل تطور وسائل الإعلام الجديدة الأمر وفاقمه، لكنّه ليس هو من خلقه. على المدى الطويل، كانت الأسباب الأهم هي اقتصادية الطابع: ركود الأجور والمداخيل الحقيقية، وازدياد اللامساواة، وتراجع الحركية الاجتماعية، وتراجع التصنيع، وانعدام الأمن الوظيفي.
المؤشر الأكثر إيلاماً على الخلل الاجتماعي هو انخفاض متوسط العمر المتوقع بين البيض غير الحاصلين على تعليم جامعي في الولايات المتحدة، وهي الظاهرة التي تتزايد في بريطانيا أيضاً.
الأزمات المالية وطرق توليها تركت الانطباع بأنّ النظام فاسد وغير كفؤ، الأمر الذي أضعف إيمان الناس بالمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا عموماً. كما تشير الدلائل إلى أنّ السياسات التي تصوغها هذه المؤسسات السياسية هي في صالح النخب على حساب الأغلبية.
الأدلة اليوم قوية على ظهور الرأسمالية «الريعية»، مع تناقص المنافسة، والاحتكار المتزايد، والسعي الذاتي الجامح للمديرين التنفيذيين في الشركات. علاوة على دور المال المتزايد في السياسة، وخاصة في الولايات المتحدة، والذي أدّى إلى تآكل القاعدة التنظيمية والضريبية.
هل نعجب بعد ذلك من تهكّم الناس على السياسة؟! إنّهم يرون السياسيين معروضين للبيع، وهم كذلك في الحقيقة.
ويتابع وولف: «تتعرّض الديمقراطية الليبرالية للمنافَسَة» من جانب ما يسمّيها «الرأسمالية البيروقراطية» التي يَعتبر وولف مثالاً عليها ما سمّاه «البيروقراطية الشيوعية الصينية» والتي يرى أنها «تدير الاقتصاد الرأسمالي. ويمكن لهذه الرأسمالية أن تكون ذاتية الانضباط وبعيدة النظر وتكنوقراطية وعقلانية. ومع ذلك، تعاني هذه الرأسمالية أيضاً من الميل نحو الفساد والمحسوبية. وتدمّر هذه الإخفاقات الشرعية السياسية لهذه البيروقراطية، تأتي حملة تشي جينبيغ لمكافحة الفساد اليوم من إدراكه لهذه الحقيقة. ولا شكّ بأنّه على حق» كما يقرّ وولف.

ما الحل؟

يذهب الكاتب إلى أنّ الحلّ لإنقاذ الديمقراطية الليبرالية وإنعاشها هو «عبر فكرة بسيطة ولكنّها قوية: المواطنة».
من السمات التي يذكرها للمواطنة: رفاه المواطنين، تعليمهم ومنحهم الحقّ بالمشاركة في الاقتصاد المعاصر، رعاية صحية كاملة، تحريرهم من الإساءة البدنية والنفسية، تمكين العمّال من التعاون فيما بينهم من أجل حماية حقوقهم في الشروط اللائقة، جعل الشركات تدرك أنّ عليها واجبات تجاه المجتمع، أن يتم إنشاء طبقة وسطى قوية، وضمان شبكة أمان للجميع، والحقوق المتساوية للجميع.
ما ذكره الكاتب بوصفه حلولاً، هو في الحقيقة أهداف. وحتّى تتحقق الأهداف يمكننا العودة إلى كلماته عن التناقض الحتمي بين الديمقراطية والرأسمالية.
الحلول هنا جذرية، إمّا بالتخلص من الديمقراطية والذهاب إلى الاستبداد بمحاولة إدامة الرأسمالية، أو بالتخلص من الرأسمالية في سبيل بناء ديمقراطية للغالبية يتمّ فيها التخلّص من تفضيل الربح على مصالح الأغلبية.
ينطبق هذا على ما سمّاه الكاتب «البيروقراطية الرأسمالية» التي من الحتمي أنّ أمامها خياران: إمّا انتقالها بشكل تدريجي وتخلّصها من المشكلات الحتمية لاعتماد أساليب «مراكمة رأسمالية»، أو الضياع والالتحاق بركب الديمقراطيات الليبرالية.