«الناتو الصغير»... تَكيُّفٌ لاحتواء الصين أم تَراجُع؟
رهام الساجر رهام الساجر

«الناتو الصغير»... تَكيُّفٌ لاحتواء الصين أم تَراجُع؟

عانى «التحالف عبر الأطلسي» في الأشهر الأخيرة من عدّة اختبارات ضغط خطيرة، أوّلها القرار الأمريكي أحاديّ الجانب بسحب قواته من أفغانستان والتداعيات التي أعقبت الخروج الفوضوي، وتلاها إعلان أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عن تحالف أمني باسم «AUKUS»، ما دفع باريس إلى استدعاء سفيرها لدى الولايات المتحدة لأول مرة منذ 243 عاماً من التحالف بين البلدين.

قمة جبل الجليد

لعلّ أهمّ ما كشف عنه تحالف «AUKUS» أنّ شعار «أمريكا أولاً» الذي رفع رايته الرئيسُ السابق دونالد ترامب، لم يتوقّف مع انتهاء ولايته؛ بل حَمل بايدن الراية بعده وبشكل أكثر تشدداً نحو منح الأولوية للمصالح الأمريكية بغض النظر عن تداعياتها على الشركاء والحلفاء الاستراتيجيين، بالاتجاه أكثر نحو إعادة ترتيب تحالفاتها القديمة لتناسب الواقع الجديد، إذْ أخذت على عاتقها حماية مصالحها الاستراتيجية بدلاً من الحفاظ على مراكز حلفائها الأوروبيين التقليديين، ليظهر ما بدى نزاعاً تجارياً على أنه أزمة ثقة عميقة بين الحلفاء الغربيين، ومع وعود الرئيس الأمريكي جو بايدن بالعودة إلى «التعددية والتعاون الوثيق» مع حلفائها، فإن إدارته تخطط للسير في الاتجاه المعاكس، فمحاولات التقليل من أهمية تداعيات هذا الخلاف على التعاون العسكري داخل الناتو وفقاً لرئيس لجنته العسكرية، إلا أنه ووفقاً لخبراء فهو أكثر من مجرد نزاع دبلوماسي ويهدّد أقوى تحالف عسكري في العالم، وما سحب السفراء إلا قمّة جبل الجليد.

خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء.

لقد أضاف اتفاق «AUKUS» أزمةً جديدة لدول حلف الناتو، إذ أصبح يعاني كثيراً في الفترة الأخيرة من غياب التنسيق للموقف الموحّد بين أعضائه، وأزمات أخرى تتعلق بالتمويل وحصص الدول المشاركة فيه، وهو ما قد يجعل فرنسا والاتحاد الأوروبي يتّجهان إلى تبني فكرة بناء دفاع أوروبي مشترك وبمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية.
ويأتي التحرك الفرنسي لإجراء تعديلات على مبادئ حلف الناتو، وإن كان مدفوعاً بالخسارة الاقتصادية الضخمة التي تسببت بها أستراليا على الجانب الفرنسي، فإنه أظهر حجم الشعور الفرنسي بالخيانة من حلفائها في الناتو، وقد يظهر للعيان قَدْرٌ من امتعاض فرنسا من الولايات المتحدة وبريطانيا يفوق بكثير امتعاضها من أستراليا؛ فحكومة باريس ترى أنّ مصالحها ووجودها العسكري في منطقة المحيط الهادئ والهندي قد ضُرِبَت بشدّة من حلفائها الاستراتيجيين في حلف الناتو، ما يعكس «غياب أيّ حوار سياسي داخل حلف شمال الأطلسي»، وفقاً لوزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي.
وشددت الوزيرة على أنّ الهدف الأساسي لحلف الناتو لا يكمنُ في مواجهة الصين بل في حماية أوروبا وضمان الأمن في كلا ساحتَي الأطلسي، مُبدِيةً نيَّةَ باريس تذكيرَ الولايات المتحدة بذلك، وقالت: «التحالف لا يعني كون أحدٍ رهينةً لمصالح آخر».
كل تلك الأزمات تؤكّد على أنّ روابط العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم تَعُدْ تملك الأساسَ المشترك في الدفاع والأمن والاقتصاد كما كانت في السابق. إنّ تصدع الناتو أصبح أمراً قائماً بسبب تباين المصالح، وهو ما يهدد مستقبل وجود حلف الناتو، واستمرار دوره في النظام الدولي.

«جبهة موحَّدة» ضدّ مَن؟

كانت الولايات المتحدة تضغط بجدية من أجل الرباعية بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، ولكن بالمقارنة مع «AUKUS»، يبدو الرباعي هامشياً بالنسبة لها وفقاً لمراقبين، إذ شاركت الولايات المتحدة أستراليا تكنولوجيا الغواصات النووية الخاصة بها، بينما كانت تَحلمُ الهند بهذه التكنولوجيا منذ زمن، فمصالح واشنطن لا تهدف لبناء قوة الهند من خلال «Quad» بل تبدو وكأنها آلية مصمَّمة خصيصاً للهند من قبل الولايات المتحدة لتقييدها وجعلها تركّز على مواجهة الصين وأنْ تستهلك كلٌّ منهما الأخرى.
يكشف تشكيل «AUKUS» على الأقل أنّ الولايات المتحدة تفتقرُ إلى الثقة في استراتيجيتها المتمثلة في شدّ أيّ دولة تقريباً في جبهة موحدة مناهضة للصين؛ لأن للدول مصالح متباينة في المنطقة ومعظمها يحافظ على علاقات وثيقة مع الصين فالولايات المتحدة لم يعد باستطاعتها جعل الحلفاء أو دول آسيا أن يخفّضوا من مستوى علاقاتهم الاقتصادية والتجارية معها، كما أنها وبسبب أزماتها الاقتصادية العميقة لم يعد باستطاعتها دعم تلك الدول لمواجهة الصين عسكرياً.
قد لا يكون كعب أخيل «AUKUS» (منطقة الضعف) في الأمن، ولكن في منطقة مختلفة، ألا وهي (التجارة)، فالصين هي الشريك الأكبر لجميع جيرانها وهي خارج كتلة تجارية رئيسية واحدة فقط في المنطقة، الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ «CPTPP» والتي أعلنت بكين عن عرضها الرسمي للانضمام للشراكة – وعن استراتيجيتها في المواجهة – في اليوم التالي للإعلان عن «AUKUS».
ولهذا يمكن الاستنتاج بأنّه لا يمكن أن تكون هنالك حالة تكيّف وإعادة ضبط من الناحية الجوهرية للناتو فهو كما كان دائماً: آلة حرب تهدف لتعزيز الهيمنة الإمبريالية الأمريكية. الاختلاف يكمن في أنّ إدارة بايدن لم يعد بإمكانها ربط أعضاء الناتو بطموحات أمريكا العالمية، لارتباطهم بتحالف حتمي مع بقيّة العالم بدافع مصالحهم الذاتية والسياسية والاقتصادية، ليؤكد مسار الأحداث مجدداً أنّ الوظيفة الإمبريالية للناتو انتهتْ، ولَم تَعُدْ قابلةً للحياة في عالَم اليوم.