«باندورا»... فضائح موجَّهَة حسب الطلب

«باندورا»... فضائح موجَّهَة حسب الطلب

يعيد الأميركيون والغربيون عموماً ترتيب أولوياتهم في العالم حسب مصالحهم الاقتصادية المستجدة، وفي هذا السياق تتغير العديد من تحالفاتهم السياسية، ويصبح بعض الأصدقاء أعداء والعكس بالعكس. وفي سبيل ممارسة بعض الضغوط على الأصدقاء تتفتّق كل فترة تلك الفضائح المالية المتعلقة بالملاذات الضريبية وحركة الأموال كنوع من الضغط الإعلامي المباشر على بعض المسؤولين السياسيين، تحت ذريعة حرية الإعلام والشفافية وغيرها من الحجج التي لا تنطلي على أحد. وتتولى بعض المؤسسات الإعلامية هذه المهمّة، وقد لمع في السنوات الأخيرة نجم «الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين» (ICIJ) الذي يتخذ من واشنطن العاصمة مقرّاً له.

 كانت آخر تلك الفضائح هي ما سمي بوثائق «باندورا»، وهي عبارة عن تسريب لما يقرب من 12 مليون مستند يكشف عن ثروات سرية، وتهرب ضريبي، وفي بعض الحالات، غسيل أموال من قبل بعض زعماء العالم وأثريائه.

عمل أكثر من 600 صحفي في 117 دولة على البحث في ملفات من 14 مصدراً لشهور، وتوصلوا إلى قصص تنشر تباعاً.

تم الحصول على البيانات من قبل «الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين»، والذي كان يعمل مع أكثر من 140 مؤسسة إعلامية في أكبر تحقيق عالمي من نوعه على الإطلاق حسب المصادر الغربية.

وقد قادت «بي بي سي بانوراما» وصحيفة الغارديان البريطانية التحقيق في بريطانيا (في إشارة واضحة للجهة التي تحرك هذه التحقيقات).

تتضمن وثائق باندورا تسريب 6.4 مليون مستند، وحوالي ثلاثة ملايين صورة، وأكثر من مليون رسالة بريد إلكتروني، وما يقرب من نصف مليون جدول بيانات.

تكشف الملفات كيف أن بعض أكثر الشخصيات نفوذاً في العالم، بما في ذلك أكثر من 330 سياسياً من 90 دولة، يستخدمون شركات خارجية سرّية لإخفاء ثرواتهم.

وقد أوضحت التحقيقات أنّ هؤلاء الأشخاص «قادرون على تحويل الأموال وسحبها وإخفائها»، غالباً من خلال استخدام شركات مجهولة.

«أوف شور»

كما كشفت وثائق باندورا عن شبكات معقدة من الشركات التي تم إنشاؤها عبر الحدود، مما يؤدي غالباً إلى ملكية خفيّة للأموال والأصول، حيث تنشأ في دول من السهل إنشاء الشركات فيها، هناك قوانين تجعل من الصعب التعرف على هوية أصحاب الشركات، وتكون ضريبة الشركات منخفضة أو معدومة وغالباً ما تسمّى هذه الوجهات بالملاذات الضريبية أو القضائية. ولا توجد قائمة محددة للملاذات الضريبية، ومن هذه الدول جزر كايمان وجزر العذراء البريطانية، وسويسرا وسنغافورة وكشف سابقاً عن الملاذات في بريطانيا والولايات المتحدة. حيث أشار تقرير صدر عام 2019 إلى أنّ النظامين البريطاني والأمريكي يجذبان أشخاصاً «مثل مبيضي الأموال، الذين قد يعمدون إلى شراء العقارات لإخفاء الأموال التي حصلوا عليها بطريقة غير مشروعة».

كل ما تحتاجه لإخفاء الأموال في ملاذات ضريبية هو إنشاء شركة وهمية في إحدى البلدان أو الولايات القضائية التي تمنح درجة عالية من السرية. توجد هذه الشركة بالاسم فقط، حيث لا مكاتب لديها ولا موظفين.

من الصعب الجزم بحجم الأموال المخبأة في ملاذات ضريبية، لكن التقديرات تشير إلى مبالغ تتراوح بين 5.6 تريليون و32 تريليون دولار.

ومن أبرز الساسة المعنيين بهذه الوثائق رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، وزوجته شيري، كما تتناول بعض هذه الوثائق تبرعات عدد من داعمي حزب المحافظين في بريطانيا لحملة رئيس الوزراء بوريس جونسون.

وربما كانت المستندات الأكثر إثارة للضجة عربياً هي الخاصة بملك الأردن، الملك عبد الله الثاني، إذ كشفت الوثائق عن استعانته بشبكة من الشركات التي تتخذ من جزر العذراء البريطانية وغيرها من الملاذات الضريبية مقرّاً لها، وذلك لشراء 15 عقاراً في لندن و«آسكوت» في بريطانيا، وكاليفورنيا في الولايات المتحدة.

وتبلغ قيمة هذه العقارات حوالي مئة مليون دولار، اشتراها منذ وصوله إلى الحكم عام 1999.

ويمسُّ جزءٌ آخر من الوثائق رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ومحافظ البنك المركزي رياض سلامة، ورئيس الوزراء السابق حسّان دياب، ورجل الأعمال والنائب السابق نعمة أفرام، ونائب رئيس بنك «عودة» إبراهيم دبس.

من بين القادة الآخرين الذين ظهرت أسماؤهم في التسريبات: رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس، والرئيس الكيني أوهورو كينياتا، ورئيس تشيلي سيباستيان بينيرا، ويبدو أنّ هذه الدول مستهدفة بضغوطات غربية جديدة لأهداف قد تكون معروفة الآن أو قد تتضح لاحقاً.

باندورا الأسطورة

بحسب الأساطير الإغريقية، باندورا هي المرأة الأولى على الأرض، وتعني كلمة «باندورا» في اللغة اليونانية القديمة «الهدية» و«صاحبة العطايا»، وقد مُنِحَتْ هديّةً جَرّة، لم تكن باندورا تعرف محتواها، ونغَّصَتْ هِبَةُ الفضول، عليها حياتها. وبحسب الأسطورة، فقد حاولت أن تتجاهَل الجرة، وأن تتريّث في فتحها، ولكن كيف يمكن أن تَمنَحَ أحداً هدية وتطلبَ منه ألّا يكشفَ محتواها؟

رغم إلحاح زوجها بأنْ تنسى الهديّة، قرّرت أن تفتحها لثوانٍ معدودة فقط، لكي تعرف ما فيها، ثم تغلقها من جديد. وما إن رفعت الغطاء، حتى شمّت رائحة كريهة، وسمعت أصوات ضوضاء.

كان صندوق باندورا يحتوي على كل شرور وأمراض العالم: الموت، الحروب، الأوبئة، الجشع، الكراهية، وكل ما يمكن أن يسمّم حياة الإنسان، خافت باندورا وأعادت إغلاق الجرة، ولكن الأوان كان قد فات، وانتشرت الشرور بين البشر.

bandora2

ليست وثائق باندورا الفضيحة الأولى من نوعها بل هي الأحدث في سلسلة هزت عالم المال في السنوات الأخيرة، وأبرز التسريبات في العقد الماضي، هي التالية:

ملفات 2020 FinCEN

في أيلول 2020، كشفت ملفات FinCEN عن فشل البنوك العالمية الكبرى في وقف غسل الأموال والجرائم المالية. وأن بريطانيا هي الحلقة الضعيفة في النظام المالي، تضمنت الملفات أكثر من ألفي تقرير نشاط مشبوه.

أوراق الجنة 2017

مجموعة ضخمة من المستندات المسرَّبة لشركة المحاماة الخارجية Appleby، إلى جانب سجلات الشركات في 19 سلطة ضريبية، والتي كشفت عن المعاملات المالية لسياسيين ومشاهير وعمالقة الشركات وقادة الأعمال.

وقد أظهرت هذه المستندات أنّ حوالي 10 مليون جنيه إسترليني من مال الملكة قد استثمر خارج بريطانيا، ومخططاً للتهرب الضريبي استخدمه ثلاثة نجوم كوميديا.

وكشفت الوثائق كيفية حماية شركة Apple لنظامها الضريبي المنخفض، وأنّ الأمير تشارلز قام بحملة لتعديل اتفاقيات تغير المناخ، دون أن يفصح عن وجود مصالح مالية خارجية لشركته الخاصة فيما كان يروِّج له.

وثائق بنما 2016

إلى أنْ ظهرت وثائق باندورا، كان يُنظر إلى هذا التسريب على أنه الأكبر على الإطلاق من حيث حجم البيانات. ولكن إذا كنت تعتقد أن كشف ويكيليكس للبرقيات الدبلوماسية الحساسة في عام 2010 كان صفقة كبيرة، فقد احتوت وثائق بنما على 1500 ضعف تلك البيانات.

وبعد خمسة أشهر من وثائق بنما، نشرت معلومات من سجل الشركات في جزر البهاما.

التسريبات السويسرية 2015

شمل هذا التحقيق مئات الصحفيين من 45 دولة، نُشر في شباط 2015، وركزت التسريبات على بنك HSBC الخاص (سويسرا)، وهي شركة تابعة للعملاق المصرفي، وبالتالي رفعت الغطاء عن تعاملات في بلد تعتبر فيه السرية المصرفية أمراً مفروغاً منه.

وغطّت الملفات المسرَّبة حسابات حتى عام 2007، مرتبطة بأكثر من 100 ألف شخص وكيان قانوني من أكثر من 200 دولة.

تسريبات لوكسمبورغ 2014

أو LuxLeaks اختصاراً، هو تحقيق مكثَّف آخر تم الكشف عن نتائجه في تشرين الثاني 2014، وركزت التسريبات على كيفية مساعدة شركة الخدمات الاحترافية Pricewaterhouse Coopers، للشركات متعددة الجنسيات في الحصول على مئات الأحكام الضريبية المواتية في لوكسمبورغ بين عامي 2002 و2010.

تسريبات الشركات الخارجية «أوفشور» 2012–2013

يقدر حجم هذه التسريبات بنحو عُشر حجم وثائق بنما، ولكن كان يُنظر إليها على أنها أكبر عرض للاحتيال الضريبي الدولي على الإطلاق، عندما أعلن عنها في تشرين الثاني 2012 ونيسان 2013، وقد تم الكشف عن حوالي 2.5 مليون ملف، تضمنت أسماء أكثر من 120 ألف شركة وصناديق ائتمانية في ملاذات ضريبية، مثل جزر العذراء البريطانية وجزر كوك.

من المفيد النظر عميقاً في عدد كبير من الفضائح التي كشفت عنها وثائق باندورا، لكن العدد الضخم جداً يهدف إلى خلط الغثّ بالثمين من هذه الفضائح، وليس من الصعب كشف الأهداف الأساسية لكل فضيحة من مجموع الفضائح الأخيرة حسب توجهات المرحلة.

آخر تعديل على الجمعة, 15 تشرين1/أكتوير 2021 12:14