التوتر بين إيران وأذربيجان، هل ينتصر التكامل الإقليمي على «فرّق تَسُدْ»؟
تصاعد مؤخراً توتر بين إيران وأذربيجان، تخللته مناورات عسكرية على الحدود من الطرفين، ليس فقط من الجانب الإيراني، بل واشتركت أذربيجان أيضاً بمناورات عسكرية مع تركيا بعد أيام. وبرز توجّس إيران من علاقات أذربيجان بـ«إسرائيل»، والتي رغم كونها ليست جديدة، لكن حدث تقارب أكبر السنة الماضية، وخاصة مع استخدام القوات الأذربيجانية الأسلحة «الإسرائيلية» في صراعها مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ. يضيء التقرير التالي بشكل خاص على البعد الجغرافي-السياسي والاقتصادي للتوتر في علاقته مع مشاريع التكامل بين بُلدان المنطقة الواقعة على طريق الحرير و«الحزام والطريق»، والتي من المتوقع تماماً من واشنطن والحركة الصهيونية ألّا تدخّرا جهداً عدوانياً في عرقلتها عبر «فرّق تَسدْ» بأشكال مختلفة.
المناورات العسكرية على الحدود الإيرانية-الأذرية
في يوم الأربعاء، 29 أيلول 2021، قال العميد محمد باكبور، قائد القوة البرية للحرس الثوري الإيراني، في تصريح للصحفيين إنّ إيران لن تتسامح مع جيرانها في أن يصبحوا «ملاذاً آمناً وقاعدة للوجود والأنشطة المناهضة للأمن، التي يمارسها النظام الصهيوني الزائف».
بعد ذلك بدأ الجيش الإيراني يوم الجمعة، في 1 تشرين الأول الجاري، مناورات عسكرية واسعة النطاق برية وجوية، في الجزء الشمالي الغربي من إيران، وشملت مدرعات وطائرات هليكوبتر وطائرات دون طيار، وقال العميد كيومارس حيدري لوكالات الأنباء الإيرانية إنّ التدريبات كانت «مُجَدوَلة» من أجل «اختبار الأسلحة والمعدات العسكرية وتقييم الجاهزية القتالية».
وبينما أشار بعض المسؤولين الإيرانيين مراراً وتكراراً إلى أنّ التدريبات روتينية بحتة، لكن مسؤولين آخرين ألمحوا إلى تدهور العلاقات مع الجيران الأذربيجانيين وإلى الوجود الصهيوني في المنطقة، وإلى استيائهم الواضح من علاقات أذربيجان مع «إسرائيل»، وذلك في تصريحات قبل وبعد المناورات العسكرية.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، بأنّ طهران «لن تتسامح مع وجود النظام الصهيوني بالقرب من حدودنا». كما ونشر حساب «تويتر» الرسمي للمرشد الأعلى خامنئي تغريدات يوم الأحد 3 تشرين الأول جاء فيها: «أمن أيّ بلد هو البنية التحتية الأساسية لجميع الأنشطة من أجل التقدم. أولئك الذين يعتقدون أنه من خلال الاعتماد على الآخرين يمكنهم ضمان أمنهم، يجب أن يعلموا أنهم سيتعرضون قريباً لضربة لأنهم عهدوا بأمنهم للأجانب... يجب حل القضايا المتعلقة بجيران إيران في الشمال الغربي بحكمة من خلال الاعتماد على الأمم [الشعوب]، من خلال تعاون جيوش الدول المجاورة وتجنب وجود أي قوات عسكرية أجنبية... في القضايا المتعلقة بشمال غرب إيران، تعمل القوات المسلحة الإيرانية بحكمة وتعقّل. من الجيد للآخرين أيضاً التصرف بحكمة وعدم السماح للمنطقة بمواجهة المشكلات. وأولئك الذين يحفرون حفرة لإخوانهم سيكونون أوّلَ من يقع فيها».
في اليوم التالي (الإثنين 4 تشرين الأول) ظهر الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في مقابلة مع وكالة الأنباء التركية الرسمية، ليقول إنه «فوجئ» بمناورات إيران، مشيراً إلى أنها غير مسبوقة في الثلاثين عاماً الماضية، وتساءل «لماذا الآن؟ لماذا بالضبط على حدودنا؟ هذه الأسئلة يطرحها الشعب الأذربيجاني، وليس أنا».
جرى أيضاً الحديث عن اعتقال اثنين من سائقي الشاحنات الإيرانيين أثناء عبورهما من ممرٍّ حدوديّ أذربيجانيّ إلى أرمينيا، وهي حادثة لو أُخِذَتْ بحد ذاتها لظهرت ثانويةً، لكن الأهم منها عموماً هو سياق القضايا الاستراتيجية المتعلقة بالتنافس الإقليمي حول التموضع الأفضل للطرق التجارية ومشاريعها على خارطة «الحزام والطريق» بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وسنتناوله في الفقرة التالية.
«الحزام والطريق» بين التكامل والتنافس ومحاولات التخريب الغربي-الصهيوني
لا يمكن فهم حساسية الوضع بالنسبة لإيران دون الأخذ بالاعتبار مصالحها الاستراتيجية وتطورات المنطقة، ولا سيّما توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الصينية-الإيرانية للـ 25 عاماً المقبلة، والتي تم التوصل إليها في آذار من هذا العام، والتي ستتحول بموجبها الصين إلى الشريك الاقتصادي الأكبر لإيران، ما سيؤدي إلى تدفق الاستثمارات الصينية إلى إيران في السنوات القادمة بما يقدَّر، وفق بعض التقارير، بنحو 400 مليار دولار، ولا سيّما الطاقة والبنية التحتية. وفي هذا السياق هناك أهمية كبرى لأقصر طريق بين البلدين، ألا وهو الطريق عبر أفغانستان وطاجيكستان، وهذه الأخيرة أيضاً لها ارتباط وثيق بإيران على المستوى الحضاري بسبب تاريخهما المشترك.
وهكذا فإنّ لإيران مصلحة كبرى في ضمان نجاح المشروع المسمَّى «الممر الفارسي» عبر الأراضي الأفغانية والطاجيكية للتواصل مع الصين، وخاصة لضمان استقرارها على المدى الطويل في مواجهة العقوبات الأمريكية العدوانية والاستفزازات الإقليمية بقيادة واشنطن، وبواسطة الكيان الصهيوني كرأس حربة ومعه أصحاب النهج التطبيعي.
هل لممرّ «زانجيزور» علاقة بالتوتر؟
ليس في التوتر الحالي بين إيران وأذربيجان مصلحة لأيّ منهما في تعطيل طريق الحرير والحزام والطريق بقدر ما يبدو الأمر بالأحرى نوعاً من التنافس الإقليمي على أفضليات التموضع والمكاسب على هذا الطريق نفسه، وينطبق ذلك على التنافس الإيراني-التركي أيضاً، ولا شك بأن العقلاء من هؤلاء الجيران، وكذلك اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين الحريصين على نجاح المشروع الأوراسي، يفترض بهم ألّا يسمحوا لهذه التوترات بالتحول إلى تناقضات تناحرية.
تتوقع بعض التحليلات المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق BRI بأنّ هناك مستقبلاً لتوسع طبيعي غرباً لمشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (والمعروف اختصاراً بـ CPEC) بحيث يمتد غرباً إلى إيران نتيجة للاستثمارات الصينية الواعدة هناك، ويبدو أنّ «االممرّ الفارسي» يلعب بالمقابل دوراً بتخفيف التوترات بين إيران وباكستان.
أما الممر الذي رأت فيه بعض التحليلات «مفاجئة» ربما لا تكون سارّة كثيراً لإيران، ولم تجد الوقت الكافي للتكيف معه بعد، فهو ممر «زانجيزور» الرابط بين العاصمة الأذرية باكو على بحر قزوين وإقليم «ناختشيفان» ذاتي الحكم (تفصله أراضٍ أرمينية جغرافياً عن أذربيجان ولكنه جزء من أذربيجان) عبر منطقة «سيونيك» الأرمينية. وفتح هذا الممر جاء مؤخراً جزءاً من «إعلان شوشة» في 15 حزيران الماضي بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأذربيجاني إلهام علييف، في زيارة أردوغان لباكو، التي تم خلالها توقيع جملة من اتفاقيات التعاون بين البلدين بكافة المجالات من الاقتصادية إلى العسكرية.
ويتصل ممر زانجيزور بتحويل تركيا إلى محطة أساسية ضمن مشاريع الربط الإقليمية والحزام والطريق، وكامتداد له تنشئ تركيا خط سكة حديد «قارص-ناختشيفان» ما يقصر زمن العبور بين أذربيجان وتركيا الطامحتَين لزيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى 15 مليار دولار بحلول عام 2023، وكان قد سجّل 4.5 مليار دولار عام 2019، ويساعد على ذلك توقيعُ البلدَين «اتفاقية التجارة التفضيلية» الذي منح 30 سلعة أذرية ميزة تفضيلية في تركيا. كما ويمكن ربط خط «قارص-ناختشيفان» بخط سكة حديد «باكو-تبليسي-كارس»، مما يعطي المشروع دوراً أكثر حيوية على المستوى التجاري في المستقبل. كما يربط ممر زانجيزور الدول الناطقة بالتركية بمجموع نواتج محلية إجمالية يبلغ 1.1 تريليون دولار. علاوة على ذلك، يحمل الممر وامتداده داخل تركيا مكاسب اقتصادية وجيوستراتيجية لأنقرة، إذ سيجعل منها – وأذربيجان – جزءاً من شبكة النقل في بحر قزوين بما في ذلك ممر النقل «بين الشرق والغرب» وممر النقل الدولي «بين الشمال والجنوب»، بحيث تصبح إحدى نقاط الربط بين آسيا وأوروبا.
وتجدر الملاحظة بأنّ أنقرة أعلنت في 4 تشرين الأول الجاري، أنّ قواتها ستبدأ في اليوم التالي مناورات عسكرية مشتركة مع أذربيجان في إقليم ناختشيفان قرب الحدود التركية، وجاء ذلك بعد أيام من المناورات الإيرانية، وسبقتها مناورات الشهر الماضي بين أذربيجان وتركيا وباكستان.
العواقب بعيدة المدى على أوراسيا بحال تفاقم التوتر
ترى تحليلات استراتيجية بأنّ أبرز الانعكاسات السلبية المحتملة من تفاقم التوتر بين أذربيجان وإيران هي التالية:
- قد يصبح ممر النقل بين الشمال والجنوب (NSTC) غير قابل للتنفيذ سياسياً.
- قد تحدث انعكاسات سلبية على ثلاثي أستانا (روسيا وتركيا وإيران) إذا رأت إيران أنّ تركيا تشجِّع أذربيجان ضدها.
- قد تتحرك إيران ضد طالبان في أفغانستان (ضد باكستان بالوكالة).
– قد يخلق التوتر صعوبات بوجه تحقيق الرؤى التكاملية بين الصين وروسيا في منطقة أوراسيا.
الحوار والتعاون هو الحلّ ضدّ التخريب الأمريكي-الصهيوني
رغم مخاطر ازدياد التوتر، لكن من التطورات الإيجابية مؤخراً أنّ الموضوع كان مطروحاً على جدول أعمال المحادثات في موسكو بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. وأشار لافروف خلال محادثاته في موسكو إلى أنّ الجانب الروسي ليس مع تكثيف النشاط العسكري والمناورات الاستفزازية. وأنه لتسوية القضايا بين باكو وطهران، طرحت موسكو «مبادرة إنشاء صيغة 3+3 وهي دول القوقاز الثلاث وجاراتها الكبيرة الثلاث: روسيا وإيران وتركيا»، وبحسب لافروف فإنّ الإيرانيين موافقون على الفكرة، ويلاحظ موقف مشابه في أذربيجان وتركيا.
في الحقيقة، يساعد فهم العمق الاستراتيجي للتكامل الأوراسي، في تفسير جزء مهم من المواقف والجهود السياسية والدبلوماسية لكل من الصين وإيران وطاجيكستان وباكستان أيضاً تجاه أفغانستان وطالبان ما بعد الانسحاب الأمريكي.
إنّ استقرار المنطقة من قزوين للمتوسط مصلحة ليس لإيران وشعبها فقط، بل وإنّ «الممر الفارسي» والممرات الأخرى على طريق الحرير، تصبح مشاريع ازدهار وكسب مشترك بشرط أن تتم إدارتها بشكل صحيح وعادل ويعود بالرفاه على الشعوب من قبل جميع الأطراف، ولا يمكن أن يتم ذلك إذا لم يتم تفكيك الألغام الصهيونية والأمريكية داخل وبين هذه البلدان والشعوب.