حرب رقاقات أم أزمة الرأسمالية؟
مع فرض الولايات المتحدة عقوبات تكنولوجيّة على الصين، تواجه صناعة الإلكترونيات العالميّة فترات مضطربة. بعد العقوبات تراجعت هواوي من المرتبة الأولى كمزوّد للهواتف النقّالة في الربع الثاني من 2020، إلى المرتبة السابعة حالياً. وتعليقاً على هذا التراجع، قال رئيس شركة هواوي الحالي إنّ الشركة تصارع اليوم من أجل البقاء. لكن هل تستطيع هواوي الحفاظ على موقعها في السوق إن لم تستطع الصين اللحاق بركب تكنولوجيا تصنيع وتصميم الرقاقات؟
ضمن هذا المجال، هواوي لا تنجو وحسب، بل تؤدي بشكل ممتاز. لا تزال رائدة العالم في سوق معدّات الاتصالات، مع حصّة سوقية ضخمة بنسبة 31% – أي ضعف حصّة أقرب منافسيها: نوكيا وإريكسون – وأرباح تقارب 50 مليار دولار في النصف الأول من عام 2021.
ليست الشركات الصينية وحدها هي التي تواجه أوقاتاً عصيبة. مع تزايد حدّة صراع الرقاقات بين الولايات المتحدة والصين، تأثرت سلسلة التوريد العالميّة للرقاقات الإلكترونية بشكل كبير وظهر النقص في الرقاقات. تدخل رقاقات أشباه الموصلات في كلّ منتج تقريباً، بدءاً من أجهزتنا المنزلية البسيطة، مثل المايكرويف والمحمّصات – وصولاً إلى المنتجات الأكثر تقدماً في الصناعة. المعوّق الأكبر اليوم أمام صناعة السيارات هو النقص في هذه الرقاقات، والذي أضرّ بشدّة بإنتاجها. إذا استمرّت حرب الرقاقات، فقد تؤثر الأزمة في الصناعات الأخرى أيضاً.
صناعة الإلكترونيات هي أكثر الصناعات استهلاكاً لرأس المال ولميزانيات البحث والتطوير R&D. صناعة الصلب تستهلك رأس المال، والصناعات الدوائية تستهلك البحث والتطوير، لكن ليس كليهما. شركة ASML الهولندية غير المعروفة التي تنتج الآلات الليثوغرافيّة اللازمة لتصنيع الرقاقات، لديها رسملة سوقية أكبر من العائدة لشركة فولكس فاجن، وهي أكبر مصنّع للسيارات في العالم. يعود ذلك لتكاليف البحث والتطوير المرتفعة، فشركة ASML هي صانع المعدات الوحيد القادر على تسليم الآلات التي تحتاجها أكثر الرقائق تقدماً.
تبلغ تكلفة منشأة تصنيع جديدة لإنتاج جيل جديد من الرقاقات 20 مليار دولار، أي أكثر من تكلفة حاملة طائرات، أو محطة نووية. هناك صانعان وحيدان – TSMC وسامسونغ – قادران على إنتاج أكثر الرقاقات تقدماً للاستخدام الصناعي.
الأذرع الأمريكية
تتنافس الصين والولايات المتحدة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والحواسيب، وشبكات الهواتف النقّالة، والهواتف. لكنّ الكتلة الرئيسة التي تحمل جميع هذه التكنولوجيا هي أشباه الموصلات.
كلّما تمكنّا من تزويد هذه الرقاقات بلفافات أكثر، ازدادت قدرتها الحاسوبيّة أكثر. الرقاقات الأكثر تقدماً هي عند مستوى أدنى من 10 نانومتر، والصانعان الوحيدان لهما هما: TSMC وسامسونغ. تأتي SMIC الصينية في المرتبة الثالثة، وهي قادرة على تصنيع رقاقات بمستوى 14 نانومتر، وقد تمكنت من ذلك مؤخراً بعد الانتقال من رقاقات بمستوى 28 نانومتر. تمكنت الشركة الصينية بسبب الدعم من الحكومة بالاستثمار في خطوط إنتاج تقلّ عن 14 نانومتر. أمّا شركة إنتل الأمريكية، وهي التي كانت رائدة العالم في مجال الرقاقات في يوم ما، علقت عند 14 نانومتر، رغم أنّ لديها خططاً لتطوير الجيل التالي من الرقاقات.
اختارت الولايات المتحدة صناعة أشباه الموصلات كساحة حرب جيو-استراتيجية لمنافسة الصين. يعتقد الأمريكيون بأنّ لديهم تكنولوجيا مذهلة رائدة وحصّة سوقية ضخمة. الصين هي أحد المشاركين المتأخرين، ورغم أنّها تملك حصة سوقية مماثلة للأمريكيين، فهي لا تزال تعتمد على بعض التكنولوجيا الرئيسة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها. لهذا اختار الأمريكيون شركة هواوي وصناعة أشباه الموصلات الصينية كهدف لعقوباتهم. يعتقد الأمريكيون بأنّ كلّ ما عليهم فعله كي يحافظوا على ريادتهم وهيمنتهم هو منع الصينيين من الوصول إلى التكنولوجيا.
بعد منع الأمريكيين شركة هواوي من الحصول على رقاقات 7 نانومتر من TSMC التايوانية، حاولت الشركة بناء خطّ إنتاجها الخاص لرقاقات 7 نانومتر، واحتاجت لذلك لاستيراد الآلات الليثوغرافيّة فوق البنفسجيّة «EUV» من شركة ASML الهولندّية، حيث تكلّف الآلة بين 120 إلى 150 مليون دولار. ورغم أنّ الآلات يتم تصنيعها في هولندا، فهي تستخدم برمجيات مطورة في فرع الشركة في الولايات المتحدة، وهي بالتالي ملزمة بالخضوع لنظام العقوبات الأمريكي.
يوصلنا هذا إلى حقيقة أنّ المحرّك الحقيقي هنا ليست الرقاقات، بل الآلات التي تنتج هذه الرقاقات. وهذا هو السبب الذي سمح للشركة الهولندية بوضع الصينيين في عنق الزجاجة.
دومينو
طالما أنّ الآلة هي الأكثر أهميّة، فما الذي يدفع قدماً التكنولوجيا اللازمة لبناء هذه الآلات وإنتاج الرقاقات؟ كما يعلم الماركسيون: إنّها المعرفة التي تقود القوى المنتجة، وهي في حالتنا صناعة رقاقات أكثر تقدماً. المعرفة المطلوبة هنا هي البرمجيات وأدوات تصميم الآلات الليثوغرافيّة. كلاهما يتطلبان معرفة مكثّفة وأشخاصاً ذوي مهارات متخصصة للغاية.
لا تزال الولايات المتحدة وجامعاتها إلى اليوم، المصدر الرئيسي لتطوير المعرفة، ومفتاح التقدم في هذا المجال. لكنّ مشكلة الولايات المتحدة طويلة الأمد هي أنّ البرامج البحثية في الجامعات الأمريكية قائمة بغالبها على التلاميذ الأجانب، ومعظمهم من الصين والهند ودول نامية أخرى. يبقى الكثير من هؤلاء التلامذة في الولايات المتحدة، ويوفّرون قوّة العمالة المطلوبة لتطوير المعرفة التي تمتلكها الولايات المتحدة.
إن لم يتم الترحيب بالتلاميذ والباحثين الصينيين اليوم في الولايات المتحدة، فمصدر تنمية المعرفة هذا سوف يضعف.
من ناحية أخرى، استثمرت الصين بكثافة في جامعاتها ومؤسساتها البحثية «للاستزادة: كيف تستعيدُ الأوطان عقولَها المهاجِرة؟ (نجاحُ الصين نموذجاً)»، متجاوزة الولايات المتحدة في إنتاج عدد أكبر من درجات الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا. كما أنّها تبني مساراً صلباً من الابتكارات لنقلها من الجامعات والمؤسسات البحثية إلى الصناعة.
يُقلق الولايات المتحدة حقيقة أنّ الصين هي السوق الأكبر لبرمجيات تصميم الرقاقات الأمريكية. الشركات الأمريكية تصمم أيضاً رقاقات عالية الجودة يتم نقلها إلى تايوان لتصنيعها. على المدى القصير ستضرّ العقوبات الأمريكية دون شك الصينيين فيما يتعلق بإنتاجهم الرقاقات المتطورة وإنتاجهم للأدوات الإلكترونية المعتمدة على هذه الرقاقات. لكنّه سيعني أيضاً أنّ الشركات الأمريكية ستفقد جزءاً كبيراً من إيراداتها التي تحصل عليها اليوم من السوق الصينية جرّاء بيعها أدوات التصميم. كما سيعني أيضاً خسارتها لإيرادات الرقاقات التي تصممها الشركات الأمريكية مثل كوالكوم وإنفيديا قبل تصميمها في TSMC التايوانية.
تعني هذه الخسائر في الإيرادات، خسائر في الميزانيات التي يمكن تخصيصها للبحث والتطوير، وتآكل موقع الأمريكيين كمركز المعرفة العالمي. إن خسرت الشركات الأمريكية السوق الصينية فستخسر بذلك جزءاً كبيراً من إيراداتها، ما سيضعف قدرتها على المنافسة في المستقبل بشكل خطير. قد يحقق الأمريكيون انتصارات قصيرة المدى مثلما هي الحال في هواتف هواوي. لكن على المدى الطويل تعني خسارة الإيرادات قدرة أقل على إنتاج المعرفة التي تمنح الولايات المتحدة تفوقها التكنولوجي. سيصيب هذا الولايات المتحدة بمقتل، فالولايات المتحدة، على عكس بلدان أخرى، لا تنتج الرقائق أو الآلات التي تنتجها، بل المعروفة التي تدخل في كلا الرقائق والآلات.
كم ستستغرق الصين كي تزيح الولايات المتحدة وحلفائها عن القيادة فيما يخص تكنولوجيا أشباه الموصلات؟ قدّرت شركة «Analysis Mason»، إحدى أكبر شركات الاستشارات في العالم، في تقرير أصدرته في 21 أيار، بأنّ الصين ستستغرق ثلاثة إلى أربعة أعوام.
وفقاً لمذكرة لرابطة صناعة أشباه الموصلات الأمريكية التي أودعتها وزارة التجارة الأمريكية، فالطريقة الوحيدة التي لدى الأمريكيين كي يحافظوا على ريادتهم هي بالاستمرار في تصدير التكنولوجيا إلى الصين، واستخدام عائداتها لتطوير جيل جديد من التكنولوجيا، بالتوازي مع الدعم الحكومي.
لكنّ المشكلة هنا أنّ بناء المعرفة يحتاج لبناء واستدامة مجتمع يقدّر المعرفة، وقادر على إنتاجها عبر تلبية الاحتياجات اللازمة لإنتاج هذه المعرفة، وعدم قدرة الأمريكيين على استدامة هكذا مجتمع يعود لأزمة الرأسمالية المتأخرة، ولهذا يعمد الأمريكيون إلى فرض العقوبات.
عن: Chip wars or the crisis of late capitalism?