هل أزمة ماليزيا انعكاس للصراع الدولي؟
بدأت ماليزيا فصلاً جديداً في أزمتها السياسية والتي بدأت تتفاقم مع استقالة رئيس الوزراء مهاتير محمد في أوائل العام الماضي، ففي 21 من شهر آب الجاري أدى إسماعيل صبري يعقوب اليمين الدستورية أمام السلطان عبد الله رعاية الدين المصطفى بالله شاه ليكون بذلك رئيس الوزراء الثالث في أقل من عامين، فهل يستطيع رئيس الوزراء الجديد إيجاد المخرج من الظرف الحالي؟
في الوقت الذي ترصد بعض وكالات الأنباء العربية والعالمية تطورات الأزمة السياسية في ماليزيا، وتنقل آخر التطورات والتصريحات الصادرة من قيادات القوى السياسية البارزة، يغيب التحليل العميق لجذور هذه الأزمة السياسية، ويبدو للمراقب الخارجي أن أسباب الأزمة تردّ إلى صراعات تخوضها قوى سياسية مختلفة ويغيب السبب الفعلي لهذا الصراع.
الأزمة في سطور
تميل التحليلات المتداولة حول أزمة ماليزيا السياسية للقول بأن بدايتها تعود لاستقالة رئيس الوزراء والسياسي الشهير مهاتير محمد في شهر شباط من العام الماضي، متجاهلين بذلك أن استقالته كانت هي نفسها نتيجة لأزمة سياسية، ولم تكن المسبب لها، بل إن نظرة أعمق للأوضاع السياسية في ماليزيا ستقودنا دون شك للقول بأن عودة مهاتير محمد في 2018 لشغل منصب رئيس الوزراء الذي تركه منذ عام 2003 كانت تعبيراً عن ملامح أولية لأزمة سياسية في البلاد. ولأن إثبات هذه الفرضية يحتاج بحثاً معمقاً في الشؤون السياسية لماليزيا، سنكتفي بتسلسل الأحداث الذي سبق تعيين رئيس الوزراء الجديد اسماعيل صبري يعقوب.
أعلن الملك بعد استقالة مهاتير محمد بخمسة أيام حصول محي الدين ياسين على الأغلبية النيابية وعينه الملك بموجب مرسوم دستوري كرئيس لوزراء ماليزيا في آذار 2020. وشكل وصول ياسين إلى رئاسة الوزراء صدمة للقوى التي كانت ترى أنها تملك حظوظاً لترأس الحكومة، ولذلك اتسمت أشهر رئيس الوزراء الـ 18 في المنصب بعدم الاستقرار، نظراً لحدة الصراع القائم. وبالإضافة لذلك، لم تكن ماليزيا بعيدةً عن التأثيرات الكبرى في العالم وتأثرت تحديداً بتداعيات فيروس كورونا الذي وضع قيوداً جديدة على الاقتصاد المتعثر للبلاد، وضرب قطاعها الصحي، وشكّلت هذه العوامل بالإضافة إلى عوامل أخرى متنوعة ضغطاً إضافية على ياسين الذي وجد نفسه أمام مطالبات من قوى المعارضة بالتنحي وظهر في مواجهته أسماء بارزة مثل مهاتير محمد وأنور إبراهيم. وفي الوقت الذي وضعت كل الخيارات على الطاولة مثل حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة أو الضغط على النواب لإيجاد توافقات جديدة وضع الملك حداً للتكهنات بعد أن قبل استقالة ياسين وأعلن حصول إسماعيل صبري على الأغلبية النيابية والذي يشابه خلفه من حيث موقعه القلق داخل البرلمان مما ينبئ بأنه حلٌ مؤقت للبلاد التي لن تتأخر حتى يخسر رئيس وزرائها الأغلبية النيابية وتعود إلى نقطة الصفر.
فاتورة الحياد
في الوقت الذي يجتهد البعض في البحث عن الأسباب العميقة للأزمة السياسية القادمة أملاً في معالجة أسبابها والتحكم بمسارها، تسمع بعض الأصوات التي تقول بأن أزمة ماليزيا إنما نابعة من سياستها الخارجية، وإن كنا نقر بوجود أسباب داخلية ذكر بعضها أعلاه، إلا أن النظر إلى سياسية ماليزيا الخارجية بوصفها أحد جذور المشكلة يمكن أن يكون مفتاحاً لفهم طبيعة الأزمة، فالقوى السياسية التي حكمت في ماليزيا بعد استقلالها تشابه من حيث البنية العامة معظم قوى التحرر، التي قاتلت الاستعمار الغربي لكنها وعند بناء نموذجها الوطني بعد الاستقلال وجدت نفسها تتجه إلى حضن قوى الاستعمار الجديد، فماليزيا ومنذ استقلالها لم تكن، على رغم خطاها التنموية البارزة، خارج الفلك الغربي، ورغم بعض مواقفها المعادية للولايات المتحدة شكّلت تبعيتها الاقتصادية «بيضة القبان» في موقعها على الساحة الدولية، مما سمح بتقليمِ دائم ِ«لأظافرها».
ساهم توازن دولي محدد في استمرار هذا النموذج الذي بدأ يتلقى الضربات مع تبدل هذا الميزان، فيسود في ماليزيا رأي يقول بضرورة التزام البلاد بـ«الحياد» ضمن الصراع الدولي الدائر اليوم، ويستند هذا الرأي إلى استنتاج مغلوط يقوم على تفسير ما يجري بوصفه صراعاً بين قوى دولية لا ناقة لماليزيا فيه ولا جمل! وعلى هذا الأساس ترسم ماليزيا سياستها الخارجية وتترجم «حيادها» بشراكة اقتصادية متميزة مع الصين من جهة وشراكة سياسية وأمنية وعسكرية مع الولايات المتحدة! كما لو أنها تعتقد أن ما يهم الصين هو صفقاتها التجارية فحسب ويمكن لها أن تغض النظر عن حاملات الطائرات الأمريكية التي تجري مناوراتها العسكرية مع القوات الماليزية.
من الحياد إلى المقاومة النشطة
فإذا أردنا توضيح حساسية المسألة أكثر ينبغي التنبيه إلى أن ماليزيا «دون موافقة الملك أو البرلمان» هي في أكثر بقاع الأرض سخونةً، فوجودها في بحر الصين الجنوبي واشرافها على مضيق ملقة الذي يعتبر من أكثر مضائق العالم استراتيجية، وفي تلك اللحظة بالذات التي تحاول واشنطن تحويل هذه المنطقة إلى طوق يلتف على عنق بكين لا يسمح لماليزيا بتجاهل ما يجري أو تضليل شعبها بأنها تقف على الحياد في الوقت الذي تحوّل البلاد إلى ساحة محتملة ومفتوحة لواشنطن في صراعها مع الصين. فالقوى السياسية في ماليزيا ينبغي أن تدرك أن مصلحة البلاد لا يمكن أن تكون إلا عبر زجها في هذا الصراع وفي مواجهة واشنطن تحديداً، فعلى الرغم من أزمة العلاقات بين ماليزيا والصين حول بحر الصين الجنوبي لا يمكن أن تكون مصلحة ماليزيا في تحويل مياه هذا البحر إلى نارٍ مشتعلة لخدمة مصالح واشنطن، ولا يمكن أن تخرج ماليزيا من نزاعات عسكرية في تلك المنطقة إلا بخسائر جسيمة، ولذلك يكون الباب الفتوح الوحيد هو بحث المشاكل مع الصين دون التلطي وراء حاملات الطائرات الأمريكية، فسلوك كهذا لا يمكن لبكين أن تراه إلا بوصفه محاولات ابتزاز مدعومة بقوى عسكرية من خارج المنطقة مما يدفعها للضغط على ماليزيا.
الضغط الخارجي الناتج عن درجات التجاذب العالي في المنطقة لا يرد إلى توسع الصين، بل يرد بشكلٍ أساسي إلى محاولة واشنطن تلغيم محيط الصين لتكون ماليزيا مجرد «ضحية جانبية» لصراع واشنطن مع بكين في الوقت الذي تقضي المصالح الوطنية لكل البلدان الواقعة في تلك المنطقة الحساسة البحث عن أفضل الأشكال للتكامل فيما بينها مما يضمن نموذجاً مستداماً للتنمية سيكون قادراً على حل مشاكل ماليزيا الداخلية بشكلٍ جذري.