الحدثُ الأفغانيّ... نقدُ التحليل المُـتهافِت

الحدثُ الأفغانيّ... نقدُ التحليل المُـتهافِت

مع وصول طلائع طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابُل، خرج علينا سيلٌ من التحليلات، دون أن نجد – إلا ما ندر – مَن يرتقي إلى مستوى الحدث، ودلالاته، واحتمالاته اللاحقة... أكثر تلك التحليلات بؤساً وسخفاً، نوعان:

– تلك التي عَزَتْ هذا الانعطاف إلى أنه انتصار «إلهيّ» لأمة الإسلام!

– أو التي رأت أنَّ عودة طالبان هي انعكاس لـ«ثقافة الشعب» الأفغاني التي لم ينفعْ معها الوجودُ الأمريكي «المُتَمدِّن» على مدى عشرين عاماً!!

 

درسٌ أول وسريع

في البداية، ولمن لا تعجبه التحليلات العميقة، ويتعاطى فقط مع ما هو ظاهر على السطح، نقول: بغض النظر عن مقدمات ومآلات وأسباب ودوافع ما حدث، من المفروض ألّا يختلف عاقلان بعد اليوم على أنّ الطريقة الأمريكية في «الحرب على الإرهاب»، ليست فقط غير مجدية، بل إنها تزيد قوى الإرهاب تمدُّداً، وإلّا، فما معنى أنْ تكون نتيجة عشرين عاماً من الاحتلال، وأوّل قرار جماعي لحلف الناتو منذ تأسيسه، وتريليونَي دولار... هذا الزخم الطالباني؟

فإمّا أنَّ واشنطن لا تستطيع، أو أنها تكذب، أو الأمران معاً؟ وعليه، فإن أيَّ حديثٍ عن حرب أمريكية على «الإرهاب»، وسعيٍ أمريكي إلى نشر «الديمقراطية» بعد اليوم، مِن جانب سَقْطِ مِتاع الثقافة والإعلام والفكر، والفطريّات التي ظهرت على مزبلةِ خواءِ ثقافة الاستهلاك، مِن حقِّنا أنْ نتعاطى معه على طريقة مُنتظر الزيدي.

ولكنْ، وعلى مقلبٍ آخر، وربما قبل ذلك، بات من حقنا وواجبنا أن نُحاكِم حُكّام، أو (نواطير) نموذج الدولة التابعة في بلدان الأطراف، بكل نماذجها القومية والدينية، ونقول بملء الفم، أنَّ الأمريكي لم ينجح يوماً، إلّا لأنه استثمرَ في تفاهتِكُم، ولم يستطع أنْ يفعل كلَّ ما فعلَه أو سيفعله، في أفغانستان، والعراق، وسورية، ولبنان، واليمن، وإيران، إلّا بسبب هذه البنى الهشَّة سهلةِ الاختراق التي تحرسُونها، وسياساتكم التي تمهِّد الحطبَ والأرضَ لكل هذه الحرائق المشتعلة.

 

في جذر المشكلة

 وفي العمق، وكي نفهم حيثيّات الانسحاب، لا بدَّ أنْ نتذكَّر أولاً الخلفية الحقيقية لإعلان الحرب على الإرهاب عام 2001 بغضّ النظر عن البروباغندا التي رافقت الحدث في حينه.

– الاحتلال الأمريكي عام 2001 كان إعلاناً مُضمَراً عن أزمة نموذج رأس المال المالي المعولَم، وضربةً استباقية لحماية الرافعة الأساسية لهذا النموذج، أي الدولار الورقي، الذي تجاوزَ حجمَه الحقيقيّ كنقد، وغيَّر المغطى إنتاجياً، والزائد عن حاجة السوق الفعلية بمئات المرات، والمهدَّد بالانهيار في أية لحظة كأيَّةِ بضاعةٍ كاسدة، خصوصاً مع ظهور عملاتٍ بديلة، ونموٍّ اقتصادي عاصف في آسيا: الصين، الهند... أيْ، كانت محاولةُ دعم الدولار المهدِّد بقوة السلاح، وكي لا يلتبس الأمر على أحد، ويخرج علينا أحدُ المتفذلِكين، ويتساءل: «كيف يستوي الأمر؟ اقتصاد مأزوم وحرب؟»... نعم يا سيدي، الحرب هي الرئة الحديدية التي يتنفس منها كلُّس اقتصاد مأزوم، وخصوصاً عندما يكون المجمَّع الصناعي العسكري صاحبَ القرار الأول... فكان ما كان، وأصبحت أفغانستان نقطة الاستناد اللوجستية لتفريخ الإرهاب في عموم الإقليم، بدءاً بالجارة باكستان، ومن ثم العراق، ومصر، وليبيا، وسورية... ليتَّضِح وبالملموس، بأنّ الدور الأمريكي الفعلي هو إدارة الإرهاب، والاستثمار فيه، وليس الحرب عليه، فمن صناعة القاعدة تمويلاً وتدريباً ورعاية، إلى (الحرب) عليها، ثم إلى التفاوض معها، وتقديم النصح للسلطة الأفغانية بتقاسم السلطة مع طالبان، في سلسلة متناقضات شكلاً، ولكن واحدة في المضمون، وهي استخدام الطاقة الكامنة لدى هذه الجماعات أو على الأقل أقساماً منها، بما يخدم السياسات الأمريكية، أو يبرِّرها على الأقل، والتي تتكثّف الآن في إثارة التوتر بالجوار الصيني وآسيا الوسطى، تخديماً لاستراتيجيّتها الجديدة في مواجهة التنين الصيني. 

– احتلال أفغانستان كان المنصة الأساسية التي ستمدّ نظرية (صراع الحضارات) بالذخيرة الدعائية-الثقافية، التي تدّعي بأنّ كلّ الصراعات الدائرة في الشرق، هي مجرد أديان وطوائف وأعراق تتحارب، وهويّات متحاربة ولا شيء غير ذلك... فلا نظام تبعية، ولا تبادل لا-متكافئ، ولا نهب، ولا قضايا معلقة في التاريخ، ولا إرهاب اقتصادي، ولا قمع حرّاس النهب، ولا محاولات محو ثقافات توقِظ حتى الموتى من قبورهم... وكان هنتغتون قد دعا في حينه، إلى محاولة عزل روسيا، واحتواء الصين اقتصادياً، وعدّها بمثابة الشريك في الرخاء، لمنع اتحادها مع «الإسلام»، وتفعيل دور دول المركز الضابطة لصراعات خط التقسيم الحضاري في الأقاليم، وإتباع هذه الدول المركزية لمركز النظام الحضاري أي الحضارة الغربية، على حدّ وصف نظرية نبيِّنا الجديد هنتغتون.

 

في معنى الانسحاب 

– لايمكن فهم الحدث الأفغاني بكامل أبعاده، إلا من زاوية التراجع الأمريكي، ليس فقط عدم القدرة على حسم الخيارات، والاستفراد بالقرار، بل أيضاً عجزاً عن إدارة الأزمات بالطريقة التي تريدها.

– الشرط الثاني لفهم (المفاجأة) الأفغانية، هو فهم طبيعة الانقسام الداخلي الأمريكي نفسه، فإذا كان قرار الانسحاب محسوماً، فإن طريقة ومستوى الانسحاب كان محلَّ بحث و خلاف داخل النخبة الأمريكية، منذ 2005 و حتى الآن، وعلى ما يبدو أن إدارة بايدن ما كانت تملك أيّ خيارٍ آخر، أمام الوقت المتناقص، في ظلّ ضغط ملفّات دولية أخرى، سوى هذه الطريقة الفضائحية في الانسحاب...

– الشرط الثالث الضروري لفهم حقيقة ما جرى، هو التفاعلات والاصطفافات الجارية ضمن الجماعات الأفغانية المسلّحة نفسها، والصراع الدولي عليها، وحولها، وداخلها... والولاءات المتعددة لها... ومَن تابع عمليات التصفيات التي جرت ضمن طالبان وسواها من الفصائل خلال السنوات السابقة، وعدم تسمية البيت الأبيض منذ 2013 طالبان كحركة إرهابية ضمن محاولات استمالتها، سيستنتج ببساطة بأن هناك نسخة مستحدثة من طالبان، نجد ملامحها الأولى في حديث قادة الجماعة عن حكومة ائتلافية، وحل تفاوضي وما إلى ذلك... وعلى كل حال، وفي هذا السياق، تفيدنا التجربة الملموسة، بأنه كلما تعجز واشنطن عن التحكم، تعمِّم الفوضى مستندةً على حالات الاحتقان المتراكمة، وانتشار السلاح، والإعلام الشعبوي، وغيرها من الأدوات التي تضع الأسس وتمكّن الإرهاب من العمل بقوّة الدفع الذاتي. وفي السياق أيضاً، ألا يستوجبُ تكرارُ ظاهرِة تمدُّد الجماعات المسلَّحة أو زيادة التوترات الإقليمية في أكثر من موقع تعلن واشنطن انسحابها منه – (تمدد داعش في العراق، احتلال تركيا لرأس العين وتل أبيض، الانسحاب من أفغانستان) – ألا يستوجِبُ التدقيقَ جدّياً في حقيقة دور النخبة الأمريكية، أو على الأقل بعض أجنحتها.

 

في احتمالات تطوُّر الوضع

لا شك أنّ قوى الإرهاب حصلت على جرعة منشِّطة لإحياء دورها الذي كان قد تراجع نسبياً في ساحات أخرى، العراق وسورية مثلاً... ولكنْ، هل سيتوقف الأمر عند هذا الحد؟ أي مجرد تمدّد جديد للإرهاب؟... بعيداً عن أيّ جوابٍ قَطعيّ فإن المنطق يقول: الحدثُ برمّته هو مِن مُخرجات الصراع الدولي الجاري حول الهيمنة وأدواتها وآلياتها، وإحدى ساحاتها بين الأمريكي من جهة، وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، وإنّ المرحلة القريبة القادمة ستشهد المزيد من محاولات التوتير في آسيا، رغم ما تحمله من ارتدادات عالمية... إلّا إذا رضخت البراغماتية الأمريكية، وأقرّت بأنّ عهد الهيمنة والاستفراد بالقرار انتهى.