في الانحطاط والتفسخ... وما بعدهما!
التوصيف الأمثل للراهن السوري هو أنّ الوضع وصلَ إلى درجة التفسُّخ، التفسُّخُ في أيّة بُنية، يعني أنّ الكلَّ مأزوم، الكلّ في مأزق: من السلطة، إلى المعارضة، إلى القوى المتدخّلة بجميع مواقفِها، وبغضِّ النظر عن الموقِف منها، لا أحد يمتلك أدوات تحقيق مشروعه، وكيفما تحرّكوا ثمّة فشلٌ جديد، وضريبةٌ مستجدّة يدفعها السوريين، وأيُّ احتكاكٍ بين المأزومين بالطريقة السائدة منذُ عشر سنوات، لم يعد يعني إلا المزيد من التفسُّخ... دولةٌ كسورية لم تَعُدْ قادرةً على إشباع ناسِها خبزاً، وماءً، وكهرباءً، هل من توصيف مناسب، سوى الانحطاط؟
ماذا بعد...؟ ليست المرة الأولى التي يصل فيها التأزُّم على مسرح التاريخ إلى هذه الذروة، والتفسُّخ إلى هذا المستوى، في هذه الجغرافيا أو تلك... ودائماً كانت إحدى دلالات التفسُّخ على الرغم من كل مأساويّته، هي أنّ حلّاً ما بات على الأبواب – على ما يبدو ثمّة قانون هنا يفعل فعله – ومن يعرف ألف باء عِلم التاريخ سيدرك ذلك، بدءاً من تفسّخ المَلَكية الفرنسية 1789 وسقوطها، وشبيهاتها آنذاك، ومروراً بتفسُّخ القيصرية الروسية، ومن ثم الإمبراطورية العثمانية، وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى، والثانية، دائماً كان ثمّة عنصر جديد يظهر ويضع بصمتَه على صفحة التاريخ، بشرط أن يتوافق مع حاجات الواقع الموضوعي، واتجاه التطور التاريخي ويتجاوز ما سبقه... هذا الجديد لم يَلحَظْهُ مَنْ نَظَرَ إلى الواقع في حالتِه الساكنة، ولَم يَفهمْهُ، فتفاجَأ به، أمّا مَن التقطَه كأفرادٍ وقِوىً فدخَلَ التاريخ...
في مرحلة انحطاط وتفسُّخ البنى، تبدأ حرب الإرادات، ولعبة عضِّ الأصابع، مَن سيقول (آخ) أوّلاً؟
في سورية لم تعد تنفع أيٌّ من الأدوات السابقة: لا سلاح، ولا ميليشيا، ولا دجل إعلامي، ولا اختراقات استخباراتية، ولا حميّات؛ وطنية – أو ثورية – أو قومية – أو طائفية، خريطة الجوع والقلق وحّدت الجميع، كذّبت كلَّ النُّخب وأطاحت بالاصطفافات، الكل بات عاجزاً، وعارياً...
من يدعو إلى الصمود بات محلَّ سخرية، ومن يتحدث في الثورة تأتيه اللعنات من كل حدب وصوب، ثمة عنصر كان يبدو (مجهولاً) في معادلة الأزمة، وفي الحقيقة كان قد تم تغييبه بقوة السلاح أكثر مما كان مجهولاً، الآن ثمة 5% من السوريين مستفيدون من الأزمة، بمواجهة 95% من المتضررين، وكل اصطفاف ما عدا ذلك بات مجال تهكّم وتندّر، من أيّ إنسان يتمتّع بحدٍّ أدنى من الفهم والضمير.
هناك إشارات واضحة مِن كلُّ مناطق سورية، من درعا وبيان عشائرها الذي ينضَحُ بوعي نسبي، يفوق وعي كلِّ نخب السلاح والدم، سلوك ومواقف قوى مجتمعية واسعة وفاعلة في السويداء ضد حَمَلة السلاح من أيِّ اصطفاف كان، وإرغامهم على التراجع عن العربدة والزَّعرنة، الفضاء الإلكتروني وما يزخر به من ردود أفعال تجاه سياسات النظام وخصوصاً في المناطق الخاضعة لسلطته، احتجاجات السوريين في المناطق الخاضعة لسلطة الاحتلال التركي بما فيها إدلب... مواقف أبناء الجزيرة السورية من محاولات التوتير والفساد، ربما تبدو كل هذه المظاهر للبعض هامشية، وغير ذات جدوى، ربما لا يَلحظُها كلُّ من ينظر إلى المشهد بعين واحدة، ولا يعيرها أهميةً كلُّ مَن حكم على نفسه بالاصطفاف في خندق من الخنادق، ولكن نظرةً عميقةً ستقول لنا: رغم حالة التفسخ، ثمَّة عودةٌ للعنصر المغيّب مِن المعادلة، وبات يعبّر عن نفسه بألف طريقة وطريقة و رغماً عن الكل، من لا يرى ذلك حتى الآن، سيراه قريباً بالعين المجردة... بغض النظر عن الشكل الذي سيظهر به...
واستطراداً، ثمة مخزون سوري هائل، من أصحاب الكفاءات السورية، تم تهميشه، وتحييده، وشلّ فعاليته، وتحوَّل إلى قوة سلبية بعد أنْ اصطفّ تحت ضغط الحرب البسيكترونية مع أحد طرفي المأساة السورية: من دعاة الوطنية، ودعاة الثورة رغم أنه لم يكن مستفيداً بالمعنى المباشر، ولكنه أخطأ في حساباته، أو فعل ذلك كرهاً بالطرف الآخر، وليس حبّاً بالطرف الذي اصطفَّ معه، وأصبح ضحية البروباغندا مثل غيره من السوريين...
المسؤولية بأبعادها الوطنية – الثورية – الأخلاقية – الإنسانية – تقتضي من هؤلاء اليوم الجرأة مع الذات، والمراجعة، وتغيير زاوية الرؤية إلى الزلزال السوري، والخروج من دائرة ردّ الفعل المغلقة، والسعي إلى إعادة إنتاج مفهوم الوطنية لمن يريد، وإعادة إنتاج مفهوم الثورة، على حقيقتهما، لمن يريد...
ما مِن طرف أساء إلى الوطنية الحقَّة، كما أساء لها سلوك السلطة، وهي التي غطَّتْ كلَّ سلوكها مع الشعب السوري قمعاً وحرباً وتجويعاً بداعي الانتصار للوطن، وما من جهة أساءت إلى الثورة الحقَّة كما أساءت لها معارضة الائتلاف، وهي التي ارتكبت كلَّ الحماقات والموبقات بدءاً من الغباء السياسي وصولاً إلى الارتزاق والعمالة، تحت راية الانتصار لـ(ثورة) الشعب السوري... الوطن مقدَّس ولكن ليس الوطن الذي تقصده ديماغوجيا التشبيح والتعفيش. والثورةُ مقدَّسة، ولكن ليست ثورة تصبح في خدمة التشبيح والتعفيش الدولي، وتصبح مَفرَخَةً لإنتاج المرتزقة.
نختصر، ونقول، حِزب الفاقة والجوع في سورية، أمامه فرصةٌ تاريخية، كي يكنس كل هذا الهشيم، وكلَّ هذا الرماد الماديّ والروحيّ الذي خلّفَتْهُ حرائقُ الحرب، وأغلب الظنّ أنّ الجميع سيأتي إلى الحلّ مُكرَهاً، ولكنْ حَذارِ مِن استغلال حاجة السوريين إلى الأمان والاستقرار والخبز، لتشويه وتمييع الحل، أو سرقته... القتلة عبر التاريخ عندما عجزوا عن إيقاف قاطرة التغيير حاولوا التحكّم بطريق سيرها... وعندما عجزوا عن ذلك احتلّوا مقعداً فيها.