سد النهضة: البحث عن الحصص أم الحرب ضد العطش
مع تصاعد أزمة سدّ النهضة الإثيوبي وخلال الأشهر الأخيرة، بدا واضحاً أن القاهرة تحاول وعلى لسان مسؤوليها رسم سيناريوهات تحذيرية أمام المجتمع الدولي، باعتبارها آثاراً مترتبة على أزمة السد، من ضمنها تهديد استقرار وأمن منطقة القرن الأفريقي وانعكاس ذلك على الاستقرار الدولي.
أيد أعضاء مجلس الأمن، في الاجتماع الذي عقد بطلب من مصر والسودان في 8 تموز، جهود الوساطة التي يقوم بها الاتحاد الأفريقي لحل الخلاف حول السد بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، في مؤتمر صحفي عقد في اليوم التالي للاجتماع إنه «على الرغم من الجهود التي بذلتها مصر والسودان لإحالة مشكلة السد إلى مجلس الأمن الدولي، إلا أن المجلس أعاد القضية إلى الاتحاد الأفريقي».
وتباحث شكري عقب انتهاء جلسة مجلس الأمن مع نظيرته السودانية مريم الصادق المهدي ومع اللجنة العربية التي تضم ممثلين عن الأردن والسعودية والعراق والمغرب والجامعة العربية، كما جاء في تغريدة على تويتر للمتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد حافظ.
وكان شكري قد حذر، في خطابه بجلسة مجلس الأمن، من أن مصر «ستحمي حقها في الحياة» إذا أصرت إثيوبيا على عملية ملء السد المثير للخلاف، كما طلب من المجلس «تحمل مسؤوليته»، عازياً الجمود الراهن إلى ما وصفه بـ «التصلب الإثيوبي».
وكانت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي قد عبّرت، في خطابها أمام مجلس الأمن، عن مخاوف بلادها من «الآثار السلبية للسد في حال تمّ ملؤه وتشغيله دون التوصل إلى اتفاق ملزم بين الدول الثلاث»، السودان وإثيوبيا ومصر، ودعت المجلس إلى «تحمل مسؤولياته في حماية الأمن والسلام الإقليميين» من خلال إجراء مفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وبمشاركة مراقبين ووسطاء دوليين لتسهيل عملية التفاوض بين الدول الثلاث.
وفي وقت سابق تلقّى وزير الموارد المائية والري، خطاباً رسمياً من نظيره الإثيوبي، يفيد ببدء إثيوبيا بعملية الملء للعام الثاني لخزان سدّ النهضة، وذلك قبل 18 يوماً على الموعد المُعلن رسمياً من جانب أديس أبابا لعملية البدء. وقال الوزير في بيان له إنه أبلغ نظيره الإثيوبي في خطاب رسمي «برفض مصر القاطع لهذا الإجراء الأحادي الذي يعد خرقاً صريحاً وخطيراً لاتفاقية إعلان المبادئ».
مصر هل تبقى هبة النيل؟
مع بدء تشغيل سد النهضة، تتخوّف مصر من تهديد حصتها المائية البالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه، وتسعى للحفاظ على مستوى مقبول من تدفق مياه النيل خلال سنوات ملء خزان السد وبعدها، حيث تخشى القاهرة من بوار مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وتداخل مياه البحر في دلتا النيل وارتفاع نسبة الملوحة في أراضيها، وزيادة التلوث وتهديد المزارع والثروة السمكيّة فضلاً عن تأثر قطاعي الطاقة والصحة سلباً بهذه الأزمة المائية، ولتجاوز هذه المشكلات، تريد مصر ملء سد النهضة في فترة تتراوح بين 10 و21 سنة، مع الأخذ في الاعتبار سنوات الجفاف.
وترفض مصر تقليص حصّتها من المياه عن 40 مليار متر مكعب سنوياً، وتصرّ على أن يقتصر تخزين المياه خلف السد على موسم الأمطار فقط، وأن يتوقف التخزين في أوقات الجفاف. كما تطلب القاهرة زيادة عدد فتحات تمرير المياه داخل السد من فتحتين إلى 4 فتحات، لضمان استمرار تدفق المياه خلال فترات المناسيب الضعيفة للنيل.
وخلال جولات التفاوض في الأشهر الأخيرة، أصرّت مصر على أن توقع إثيوبيا «اتفاقاً متوازناً وملزماً وعادلاً» بشأن ملء وتشغيل السد، وأن تتم المفاوضات وفق جدول زمني محدد برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي كما طلبت تدخل مجلس الأمن للضغط على أديس أبابا.
سياسة فرض الأمر الواقع
إلا أن إثيوبيا قد بدأت فعلياً ملء خزان السد، حيث أنجزت المرحلة الأولى في تموز 2020، وضخت ما يقرب الـ 5 مليارات متر مكعب من المياه، رغم التوصل إلى تفاهم مع مصر والسودان لمواصلة التفاوض على قواعد الملء والتشغيل، وقد أرجع مسؤولون إثيوبيون ذلك أساساً إلى هطول الأمطار.
ويرى خبراء سودانيون أن قيام سد النهضة سيحقق لبلدهم عدة فوائد، أهمها تنظيم انسياب نهر النيل الأزرق طوال العام، وبالتالي تعدد الدورات الزراعية ومنع الفيضانات المدمرة، فضلاً عن حجز السد كميات ضخمة من الطمي وجذوع الأشجار التي كانت تتسبب في إغلاق توربينات خزانيْن رئيسيين شرقي البلاد.
وفي المقابل يرى خبراء آخرون أن الخفض الكبير في كميات الطمي سيؤدي لإفقار التربة الخصبة، وبالتالي عجز السودان عن تحقيق استراتيجيته القديمة بأن يحقق الأمن الغذائي لنفسه ويصبح سلة غذاء العالم، وكذلك يرون أنَّ حصة البلاد من المياه ستتأثر في حال اقتسام الأضرار الناتجة عن السد مع مصر كما أنه سيهدد السودانيين بالغرق والعطش، في ظل عدم وجود اتفاق يضمن أمان السد والأمن المائي والتعويض عن الأضرار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
فالملء الأول للسد الذي تم بين حزيران وتموز 2020 انعكس على التصريفات المائية لسد الروصيرص في حين تراجعت هذه التصريفات إلى 124 مليون متر مكعب مقارنة بـ448 مليون متر مكعب سابقاً، كما تراجعت أيضاً تصريفات سدّ سنار إلى 73 مليون متر مكعب مقارنة بـ373 مليون متر مكعب سابقاً، وانخفض أيضاً منسوب مياه النيل بالخرطوم. كما أثّر الملء الأول للسد على محطات مياه الشرب النيليّة في العاصمة الخرطوم كالصالحة وسوبا.
تحركات مصر بحوض النيل
بالتوازي مع التحركات الخارجية نحو مجلس الأمن وغيره، كثّفت القاهرة تواصلها مع دول حوض النيل لإنشاء سدود مائية توفر لها الكهرباء، وهي الدول التي من المتوقع أنْ تستفيد من تشغيل سد النهضة وتوليده للكهرباء، وبالتالي شرائها من إثيوبيا.
تحركات القاهرة لتعزيز التعاون في مجالات السدود والكهرباء، ومقاربة الخطى بحسب قراءة مراقبين للمشهد، تأتي ضمن مساعيها للتعامل مع أزمة سد النهضة، وإعادة توزيع وجودها على الخريطة المائية في حوض النيل، واستمالة مواقف تلك الدول في مواجهة محاولات أديس أبابا لتغيير خارطة توزيع المياه التاريخية.
وفي هذا الصدد، انخرطت مصر في دراسة وبناء العديد من السدود لإنتاج الكهرباء في دول مثل تنزانيا وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية التي تسعى لاستكمال تنفيذ سد «إنغا» الذي يقع على أضخم منحدرات مائية في العالم، فضلاً عن مساهمتها سابقاً في بناء سدود في كل من السودان وأوغندا.
الأزمة والمفاوضات المتعثرة
ظلت المفاوضات في أزمة سد النهضة تراوح مكانها رغم تدخل الاتحاد الأفريقي على مدى 3 دورات متتالية (رئاسة كل من مصر وجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية الرئيس الحالي للاتحاد) من دون أن تتمكن جهود الاتحاد من الوصول إلى حل يرضي الأطراف المتنازعة، سواء بالتوافق أو بالضغوط، وهو ما يعبر عنه بعض المحللين بأنه خلل في منظومة الاتحاد الأفريقي في انعدام آليات ملزمة لأعضائه في مثل هذه الظروف، فقد جرت مفاوضات متعددة راقبتها آليات دولية، ولكن مصيرها كان الفشل.
في المقابل، قال مبعوث الاتحاد الأوروبي إلى إثيوبيا والسودان بيكا هافيستان، إنه من المهم التوصل على الأقل لاتفاق ولو بشكل انتقالي حول الملء الثاني، وأضاف بأن الاتحاد الأوروبي يؤمن بقدرته مع الاتحاد الأفريقي على مساعدة الأطراف الثلاثة للوصول إلى حل في القضية القائمة بينهم.
فيما استبق الرئيس الدوري للمجلس – الفرنسي نيكولا دو ريفيير – ما ستسفر عنه الجلسة، قائلاً إن مجلس الأمن ليس لديه الكثير الذي يمكنه القيام به في أزمة سد النهضة بين السودان ومصر وإثيوبيا.
كما لم تثمر جولة مفاوضات كينشاسا (عاصمة الكونغو الديمقراطية) أي تقدم لحل الأزمة، حيث رفضت إثيوبيا تشكيل لجنة رباعية لإقرار جدول مباحثات لحل القضايا الخلافية قبل بدء الملء الثاني للسد، وذلك تزامناً مع تحركات مصرية عسكرية ودبلوماسية مع دول مجاورة لإثيوبيا (السودان وكينيا وجيبوتي وبوروندي وأوغندا) ووسط حديث غير رسمي في مصر عن إمكانية الخيار العسكري بضرب السد.
الصين ... بناء الثقة المفقودة
في حين دعا تشانج جيون مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، إلى حل أي خلافات حول استغلال مياه نهر النيل بالحوار والتعاون، وأكد في كلمته خلال جلسة مجلس الأمن حول سد النهضة، أن بلاده تولي أهمية قصوى لقضية سد النهضة، وأعرب عن تفهمه لمخاوف مصر والسودان بشأن السد.
كما شدد على ضرورة حل الخلافات بين أطراف الأزمة عبر الحوار والمشاورات، وأعرب عن تطلعه إلى استمرار اضطلاع الاتحاد الأفريقي بدوره للوساطة في أزمة سد النهضة.
وتتمتع الصين بعلاقات قوية مع كلّ من القاهرة وأديس أبابا، بحكم تمويلها لمشروعات تنموية كبيرة في البلدين حيث أقرضت أديس أبابا مليارات الدولارات لتمويل مشاريع بناء شبكة الكهرباء من السد إلى مدن وقرى إثيوبيا، كما أن عشرات الشركات الصينية تعمل في تشييد السد نفسه، وفي مصر تعتبر الصين أبرز المساهمين في بناء العاصمة الإدارية الجديدة، كما أن بكين تستثمر مليارات أيضاً في السودان، وكل ذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية مما يشكل ثقلاً هاماً تتمتع به لدى أطراف الأزمة الثلاثة، بالإضافة لخبرة بكين في تشييد وإدارة السدود العملاقة الأمر الذي يؤهلها لتكون وسيطا قد يساعد في إعادة بناء الثقة المفقودة بين مصر وإثيوبيا، والوصول لصيغة توازن بين الطموحات الإثيوبية والحقوق التاريخية لمصر فالصين من الناحية الدبلوماسية، تدعم التفاوض تحت رعاية الاتحاد الإفريقي كما أنها يمكن أن تقدم – وفق خبراء – مشروع اتفاق يفصل الأمور الفنية للتشغيل ومستويات المياه، وذلك على عكس المبادرات السياسية التي فشلت حتى الآن في الوصول لنتيجة.