الانتصار بالحروب ليس هدفاً!
الجيش الأمريكي هو الملوّث الأكبر في العالم، والشركات المئة التي يحمي أرباحها مسؤولة عن ثلثي انبعاثات الكربون العالمية، وأزمة المناخ تجعلنا ندرك مدى لا مبالاة الإمبرياليين، لأنهم مستعدون لجعل أجزاء كبيرة من الكوكب غير قابلة للحياة فقط لتأخير تراجعهم. تشي أعمال إدارة بايدن الأخيرة بشن الضربات الجوية في سورية والعراق بالمحاولات المستمرة للتوتير.
ترجمة: قاسيون
لا يدور الكفاح ضدّ الإمبريالية حول مقاومة دول المستعمرات الجديدة التي نشرتها واشنطن حول الكوكب فقط، بل هو أيضاً كفاح لإعادة بناء المجتمعات التي جعلتها التدخلات الأمريكية بلا دول. طوال نصف قرن من تسارع الانحدار الإمبريالي للولايات المتحدة وتراجع الأرباح، تبنَّى الإمبرياليّون بشكل متزايد نهج «عقيدة الصدمة» من أجل الحفاظ على الهيمنة العالمية. أدّت هذه السياسات إلى تحوّل 82.4 مليون إنسان إلى لاجئين، إضافة لمئات ملايين المفقرين في الأماكن التي لا تزال فيها دولة قائمة.
عملت حملات زعزعة الاستقرار في بعض الأحيان على تقوية نظام عميل، مثلما حدث في تشيلي بينوتشيه. في أحيان أخرى كان الأمر أكثر تطرّفاً، ففي أماكن مثل ليبيا وسورية كان هدف الإمبريالية تدمير الدولة القائمة بشكل كلي لتشكيل فراغ في السلطة. أمّا إنشاء دولة مستقرة من عدمه لاحتواء التداعيات الإنسانية فليس من اهتمامات الإمبرياليين.
بالنسبة لواشنطن، أن تكون هناك فوضى على شاكلة ما حصل في ليبيا، تؤدي لمحاصرة المهاجرين وبيعهم كعبيد ونمو الإجرام، هو خيار أكثر جاذبية من الإبقاء على دولة قد تأتي بحكومة تتحدى هيمنتها. اليوم ومع ازدياد تدهور الإمبريالية الأمريكية، وتنامي يأسها في مواجهة موجة جديدة محتملة من الثورات خلال العقود المقبلة، فهي تسعى بشكل حثيث لخلق المزيد من الحالات الليبية.
الإمبريالية تتلقى الضربات
لكنّ الإمبريالية تتلقى الضربات أيضاً. ففي العراق بعد رفض البرلمان العراقي السماح للقوات الأمريكية بالبقاء، بقي المتعاقدون وعملاء المخابرات في البلاد، والكثير منهم تمركز في إقليم كردستان. وبعد الضربات الصاروخية التي طالت مطار أربيل في شهر شباط كان الأمر بمثابة تثبيت للهزيمة الاستراتيجية الأمريكية. ينطبق الأمر نفسه على أفغانستان، فالقوات الغامضة التي بقيت من متعاقدين خاصين ومدربين ومستشارين وهميين هم عملاء للمخابرات، لا أحد يتحدث عنها اليوم ولكن في ظلّ المستقبل المفتوح على جميع الاحتمالات أمام المنطقة، علينا انتظار تثبيت الهزيمة الثانية للولايات المتحدة.
تتراخى قبضة واشنطن باستمرار، وهذا ظاهر في عدم قدرة الأمريكيين على تنفيذ انقلابات في مواقع جيوسياسية هامة مثل فنزويلاً أو كوبا أو الصين، ولا بسط سيطرتها على أماكن مثل نيكارغوا أو سورية. لهذا يدرك الأمريكيون بأنّ الطريقة الوحيدة لمنع أيّ مكان من هجر النظام العالمي الحالي والالتحاق بالصين هي إشعال الفوضى به. أفغانستان مثال ممتاز، فقرار الاحتفاظ بالمرتزقة الخاصين وعملاء المخابرات ليس مقصوداً به ربح الحرب، بل إدامتها أطول مدّة ممكنة لإبقاء البلاد مشتعلة.
نلاحظ الدافع ذاته والاستراتيجية ذاتها في تمويل الأمريكيين للنظام الفاشي في أوكرانيا، الذي يهدف لإبقاء المكان مشتعلاً بحيث لا تسنح الفرصة للروس لملء فراغ النفوذ الأمريكي المتراجع في أوراسيا. بالنسبة للإمبرياليين، يجب على الحرب التي توجهها واشنطن من خلال الأوكرانيين الفاشيين ضدّ دونباس أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. دفع الأمريكيون أوكرانيا لتصبح دولة فاشلة، ودعموا صعود المليشيات الفاشيّة التي تقوم بأعمال تطهير عرقي خارج القانون، حيث فقدت الدولة السيطرة على هذه المليشيات.
قد يصبح نموذج المليشيات الفاشيّة هذا نمطاً تستخدمه الإمبريالية في جميع الأماكن التي تريد زعزعة استقرارها، بما في ذلك داخل المجتمعات الأمريكية المفقرة في الولايات المتحدة نفسها. تريد الإمبريالية أن تقوم هذه المليشيات المكونة من المرتزقة بمعظمها، بملء فراغ السلطة الذي تصنعه.
لا تستطيع واشنطن تطبيق استراتيجيتها في جميع البلدان التي تقاوم حكوماتها المناهضة للإمبريالية الجهود الأمريكية، لهذا تسعى إلى محاولة انتزاع السيطرة على أجزاء من أقاليم هذه البلدان، والتي تكون حدودية في غالبها. على الحدود الكولومبية الفنزويلية تستخدم الإمبريالية النظام الكولومبي التابع لهذا الغرض، وفي سورية تحاول الأمر نفسه عبر دعم المليشيات الإرهابيّة التابعة لها وتبييض صورتها. ينطبق ذلك على شبكة المنظمات غير الحكومية الممولة أمريكياً التي نشطت بكثافة بعد الانقلاب العسكري في ميانمار.
أمنيات واشنطن الكبرى هي تحقيق الأمر ذاته في الجزء الشمالي الغربي من الصين، حيث تشكّل المنطقة عقدة حاسمة في مبادرة الحزام والطريق. لحسن الحظ فقد توقفت الهجمات الإرهابية الانفصالية في تشينغيانغ، ويعود جزء كبير من الفضل لبرامج مكافحة التطرّف التي تستخدمها الدولة الصينية لتأهيل المتطرفين السابقين. لكنّ الأمريكيين مستمرون بمحاولات استخدام «حركة تركستان الشرقية» لزعزعة استقرار المنطقة واختراق الحاجز الوقائي الذي بنته الاشتراكية الصينية.
وسط البيئات الفوضوية التي تحاول واشنطن زرعها وتكريسها، تتصاعد حركة مقاومة الإمبريالية. في كولومبيا بدأت المجموعات الثورية القديمة بالتجمّع على شكل جيش أنصار، والتي سيتزايد حضورها بلا شك على خلفية ازدياد حدّة الصراع الطبقي في البلاد. وفي هايتي بدأت المجموعات التي حاربت سياسات النظام النيوليبرالية بالتجمّع أيضاً ضمن «قوى ثوريّة» قد تفرض وجودها.
واشنطن الإمبريالية تحاول أقصى ما تستطيع إشعال الحرائق في كلّ مكان يتراجع نفوذها فيه، لكنّ جهودها ليست نافعة بالضرورة، ويمكن للشعوب الانقلاب عليها.
بتصرّف عن: Manufactured destabilization: the U.S. empire’s desperate tactic