فضائح التجسس الأمريكية تعود إلى الواجهة
أعادت آخر فضائح التجسس الأمريكية للأذهان تاريخ الولايات المتحدة الطويل للتجسس على ساسة العالم، ولا توفِّر الولايات المتحدة عادة لا الأصدقاء ولا الأعداء، فكيف إذا كان الأصدقاء يتحولون إلى منافسين في زمن الانهيار.
وكانت أوروبا من أبرز ضحايا عمليات التجسس الأمريكية، التي وصلت في القرن الماضي إلى استخدام الولايات المتحدة لشركة تأمين إلكترونية يثق بها معظم زعماء العالم من أجل التجسس عليهم.
ففي العام ٢٠١٣ استدعت فرنسا وألمانيا سفراء الولايات المتحدة بعد اعتراف وكالة الأمن القومي بالتجسس على هواتف 35 من ساسة العالم.
ووفقاً لوسائل إعلام ألمانية فإن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت باراك أوباما لم يكن يعلم بعملية التنصت على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. بينما كشفت تقارير أن أوباما كان يرغب في معرفة تحركات ميركل كافةً بعد أن لعبت دوراً حاسماً في أزمة ديون منطقة اليورو وتعتبر أكثر ساسة أوروبا نفوذاً.
وتجاوزت الوكالة الأمريكية خطوطها الحمراء في هذه العملية وزادت في مراقبة اتصالات ميركل لتتجاوز هاتفها المحمول الذي تستعمله للتواصل مع قادة حزبها المحافظ لتصل لمراقبة هاتفها الرسمي المشفر.
كما استدعت فرنسا السفير الأمريكي بعد الكشف عن تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي على ملايين الاتصالات لفرنسيين بينهم قيادات سياسية ورجال أعمال.
واكتشفت إسبانيا في العام نفسه تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي على ٦٠ مليون مكالمة هاتفية في إسبانيا، خلال الفترة من كانون الثاني ٢٠١٢ حتى كانون الأول ٢٠١٣.
وكشفت صحيفة «الموندو» الإسبانية، أن مدريد استدعت السفير الأمريكي لبحث الأزمة، ليعد بذلك ثالث استدعاء أوروبي للسفراء الأمريكان.
ووفقاً للصحيفة فقد كانت مدريد مسرحاً لفضيحة تجسس أمريكية جديدة، وكشفتها تسريبات للعميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودين.
وأوضحت الصحيفة أنّ الوكالة الأمريكية لم تسجّل المكالمات بل الرقم المتسلسل للهواتف ومواقعها وأرقام بطاقات الهواتف المستخدمة ومدة المكالمات.
ومؤخَّراً كشفت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، عن قيام وكالة الاستخبارات الأمريكية بعمليات تجسس طويلة استمرت لعقود على زعماء دول حول العالم من خلال شركة سويسرية متخصّصة في مجال الحماية الإلكترونية.
وامتلكت المخابرات الأمريكية سراً هذه الشركة التي زودت الجهاز الأمني الأمريكي بمحادثات هامة لزعماء ودبلوماسيين خلال أحداث تاريخية منذ الحرب العالمية الثانية.
والشركة هي «كريبتو إيه جي» – Crypto AG وهي الوحيدة التي وثقت بها حكومات على مدار عقود لحماية اتصالاتها من التجسس، ولكن المفاجأة الصادمة التي كشفتها وسائل الإعلام هي أنها كانت تعمل لصالح المخابرات الأمريكية.
ومن أشهر عملياتها التجسُّسُ على أنور السادات في كامب ديفيد.
وكانت الهند وباكستان وإيران ودول أمريكا اللاتينية من أبرز عملاء الشركة والتي باعت معدات لأكثر من 120 دولة حول العالم في القرن الحادي والعشرين.
ولم يكن هؤلاء العلماء على علم بأن الشركة مملوكة سراً للمخابرات الأمريكية، وبدورها استطاعت الحصول على الشفرات الخاصة بالأجهزة الموزعة على دول وحكومات العالم من الشركة السويسرية، واختراق اتصالاتها.
وكان جهاز المخابرات في ألمانيا الغربية شريكًا للمخابرات الأمريكية في إطلاق الشركة السويسرية، وهو ما كشفت عنه صحيفة واشنطن بوست بالتعاون مع شبكة «ZDF» الألمانية.
وجاءت معلومات واشنطن بوست حول تجسس المخابرات الأمريكية عبر مقابلات مع مسؤولين استخباراتيِّين غربيِّين سابقين وحاليين، إلى جانب موظفين في شركة «كريبتو إيه جي».
ولا تزال عشرات الدول تستخدم منتجات الشركة السويسرية حول العالم، وشعارها البرتقالي ما زال موجوداً على المبنى الرئيس في مدينة زيورخ السويسرية.
فيما تبدو الأزمة الحالية شاملة لألمانيا وفرنسا والنرويج والدنمارك، حيث قالت هيئة الإذاعة والتلفزيون الدنماركية إنّ السلطات الأمريكية استغلت الشراكة مع المخابرات الخارجية بالدنمارك للتجسس على مسؤولين كبار في دول الجوار منهم مستشارة ألمانيا آنجيلا ميركل.
وقالت الهيئة، في تقريرها، إنّ هذا الاستنتاج توصَّل إليه تحقيق داخلي أجراه جهاز المخابرات الدفاعية الدنماركي منذ العام 2015 في دور وكالة الأمن القومي الأمريكية في الشراكة.
وقالت هيئة الإذاعة والتلفزيون إن التحقيق الداخلي بجهاز المخابرات الدفاعية الدنماركي بدأ في 2014 بعد مخاوف أثارتها تسريبات للعميل السابق في الاستخبارات الأمريكية، إدوارد سنودن، في العام السابق كشفت طريقة عمل وكالة الأمن القومي الأمريكية.
وتستضيف الدنمارك، الحليف المقرب من الولايات المتحدة، عدة محطات إنزال لكابلات الإنترنت البحرية من وإلى السويد والنرويج وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة.
فيما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير: «سنعمل مع حلفائنا وشركائنا الأوروبيين على معالجة أي قضايا عبر القنوات المعنية الخاصة بالأمن القومي».
وأضافت أنّ «الولايات المتحدة قامت بتحليل أساليب المراقبة في الخارج في عام 2014، وأصدر الرئيس أوباما أمراً غيّر موقفنا من هذه القضية بشكل ملموس»، في نوع من الإيهام بأن موقف الولايات المتحدة قد تم تعديله في وقت سابق للتهرب من الاتهامات الموجهة الآن، وجاء ذلك تعليقاً على التقارير بشأن مساعدة الدنمارك للولايات المتحدة في التجسس على حلفاء واشنطن الأوروبيين قبل سنوات.
وأفادت صحيفة «زوديتشه تسايتونغ» الألمانية بأن الدنمارك ساعدت وكالة الأمن القومي الأمريكية عندما قامت الأخيرة في 2012 – 2014 بالتجسس على عدد من الساسة الأوروبيين، بمن فيهم المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل ووزير الخارجية آنذاك، رئيس ألمانيا الحالي فرانك فالتر شتاينماير وغيرهما.
وكانت رئيسة وزراء النرويج إرنا سولبرغ، قد أكدت أن الولايات المتحدة أعطت في 2014 تأكيدات بأنها كفت عن التجسس على حلفائها، وذلك بعد أن قدمت أوسلو احتجاجاً على هذه الممارسات.
وأوضحت أن «النرويج استدعت السفير الأمريكي لديها بعد تقرير أفاد بأن وكالة الأمن القومي الأمريكية استغلت شراكة مع وحدة تابعة للمخابرات الخارجية بالدنمارك للتجسس على مسؤولين كبار في دول مجاورة، بمن فيهم هي نفسها».
من جهته، أشار وزير الدفاع النرويجي فرانك باك-ينسن، إلى أن وزارته عقدت اجتماعاً مع السفارة الأمريكية في أوسلو، وأنه «أوضحنا فيه أن التجسس على الحلفاء غير مقبول ولا لزوم له». فيما أعلنت الحكومة الدنماركية أنها تتمتع بعلاقات قوية مع حلفائها، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، بعد تقارير أفادت بأن البلاد ساعدت واشنطن بالتجسس على قادة أوروبيين منذ أكثر من 7 سنوات.
وقالت رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن: «لا أعتقد أنّه صحيحٌ أنّ هناك حاجة لاستعادة العلاقات مع فرنسا أو ألمانيا... لدينا حوار مستمر، وفي مجال الاستخبارات أيضاً».
وقالت فريدريكسن، التي تقود حكومة أقلية للحزب الديمقراطي الاجتماعي منذ عام 2019، إنها لا تستطيع إلا أن تكرر ما قالته رئيسة الوزراء آنذاك، «يجب ألا تكون هناك مراقبة منهجية للحلفاء».
ووفقاً لهيئة الإذاعة الوطنية الدنماركية «دي آر» ورد أن الإعداد المزعوم بين الولايات المتحدة والدنمارك سمح لوكالة الأمن القومي بالحصول على البيانات باستخدام أرقام هواتف السياسيين كمعايير بحث.
قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن التنصت على الحلفاء «أمر غير مقبول».
فيما أعلنت الحكومة الألمانية أن برلين على علم بالتقارير الإعلامية حول التجسس على المستشارة آنجيلا ميركل، وهي على اتصال بجميع الوكالات الوطنية والدولية ذات الصلة، للتحقق من ذلك.
ويبدو التحرك الأوروبي في مواجهة فضائح التجسس الأميركية حاملاً للكثير من المخاوف وبلهجة يظهر فيها الفرق جلياً عمّا لو كانت المتهمة هي روسيا. وتعليقاً على ذلك قالت زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية: «عملياً قامت الولايات المتحدة بما تتهم بفعله روسيا بشكل دائم. والنقطة الأكثر خيالاً تتمثل في أن هذا العمل جرى بطريقة قانونية تماماً، أي بالتوافق مع المفهوم الغربي للقانون، يعني بالقواعد الصحيحة. وهذا الأمر يشير إليه تسريب المعلومات من تقرير سري لهيئة الاستخبارات الخارجية الدنماركية».
وأشارت زاخاروفا إلى «هدوء المواقف الرسمية» من قبل الدنمارك، فيما أعربت عن استغرابها من ردّ فعل الدول التي تم التجسس على مسؤوليها.
ولم يستبعد الخبير الألماني ألكسندر راهر وجود قوى لها مصلحة: «قوى سياسية مختلفة داخل ألمانيا نفسها قد يكون لها مصلحة في نشر مثل هذا التحقيق»، فأولاً، كلما اقترب موعد انتخابات البوندستاغ، زاد الصراع السياسي بين المرشَّحين؛ وثانياً، يمكن أن يكون ذلك مفيداً لمؤيِّدي استقلال الاتحاد الأوروبي سياسياً.
كل ذلك ضمن إطار الصراع الأوروبي الداخلي والصراع الأوروبي الأمريكي الذي تحاول أطراف هذا الصراع إبقاءه تحت مستوى المنظور حالياً على الأقل.