انتصار «سبوتنيك V» يكشف عمق الأزمة العلمية الحضارية والأخلاقية للقُـطب الآفِـل

انتصار «سبوتنيك V» يكشف عمق الأزمة العلمية الحضارية والأخلاقية للقُـطب الآفِـل

منذ اليوم الأول للإعلان عن تسجيله للاستعمال الطارئ في روسيا، في 11 آب 2020، تعرَّض لقاح سبوتنيك V المضاد لكوفيد-19 وعلى الفور لحملة هجوم شرسة منسَّقة من المايسترو الأمريكي الغربي و«ببَّغاواته» في العالم الثالث والعالَم العربي، والتي سادها تطرّفٌ استثنائي في التشويه المتنكِّر بعباءة «العِلم»، والحقد والتسييس والعنصرية بشكل يذكرنا بالهجمة المماثلة لتحميل الصين المسؤولية عن «اختلاق» الفيروس أو «نشره المتعمّد»، والتي فشلت أيضاً، باعتراف منظمة الصحة العالمية مؤخّراً. واليوم يكاد الموقف ينقلب رأساً على عقب تجاه اللقاح الروسي، بعد أن أثبت أنه واحد من الثلاثة الأعلى فعالية في العالَم، فضلاً عن أمانه وسعره المنافِس وسهولة تخزينه والاعتراف الواسع به، حيث نال تراخيص الاستعمال الطارئ من 26 بلداً حتى اليوم، إلى جانب فايزر الأمريكي-الألماني (35 بلداً) وأسترازينيكا (31 بلداً).

يأتي ذلك بعد نحو ستة أشهر لم تتوقف فيها التصريحات الغربية المجنونة، كالتي صدرت مثلاً عن «مسؤول صحّي» أمريكي لـ سي. إن. إن في 13/8/2020 عندما قال «بحقّ الجحيم، من المستحيل أن تجرّب الولايات المتحدة هذا [اللقاح الروسي] على القرود، ناهيك عن البشر!». ويعود تغيّر المواقف إلى نتائج النجاح الملموسة التي لاحظتها الدول التي جرّبت سبوتنيك V، حتى قبل نشر دراسة الطور الثالث في مجلة لانسيت الطبية الشهيرة الأسبوع الماضي. واليوم تعترف وسائل الإعلام، حتى الأمريكية، بنجاح سبوتنيك V وبأنّ «هذا يعبّر عن جودة وسلامة المؤسسة العلمية داخل روسيا، والتي كان كثيرون يَستخفون بها أو يرفضونها باعتبارها متحللة وعفا عليها الزمن وضعيفة التمويل والقوة» وفق ما اعترف به حرفياً ستيفن موريسون، مدير مركز سياسات الصحة العالمية في مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية، لصحيفة واشنطن بوست في 10/2/2021، إضافة إلى انقلاب كثير من الآراء الأوروبية أيضاً من السلب إلى الإيجاب، جارّةً خلفها طبعاً انقلاباً مماثلاً بآراءُ «بَـبَّغاوات» الغرب من المثقفين والمسؤولين في العالَم الثالث والعربي.

وكتبت صحيفة «لو جورنال دو ديمانش» الفرنسية تقول إن الكثيرين في العالم في البداية لم يرغبوا بالنظر إلى اللقاح الروسي المضاد لكوفيد بعين الجدّ، إلا أن ميزاته فرضت نفسها بنهاية المطاف... فكان من الطبيعي أن يطلبه عدد كبير من الدول، بلغ حتى الآن خمسين دولةً (بما فيها دول أوروبية) بكمية تبلغ 1.2 مليار جرعة. ولفتت الصحيفة الفرنسية إلى أن اسم اللقاح الروسي «سبوتنيك v» ذاته يُذكّر بالحرب الباردة، وأن روسيا بمساعدة هذا اللقاح تريد أن تظهر للكوكب كله أنها من جديد أصبحت قوة عظمى. وتابعت: «حين ظهر اللقاح، بدأت فرنسا والمجتمع الدولي بأسره في التعبير عن شكوكهم بشأنه. لكن الآن، بعد مرور ستة أشهر، وبفعالية تزيد عن 91% وظروف تخزين بسيطة، أصبح اللقاح الروسي أقلَّ فأقلَّ عرضةً للتندُّر».

وحتى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل اقترحت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإنتاج المشترك للقاح سبوتنيك V إذا تمت الموافقة عليه من وكالة الأدوية الأوروبية EMA. علماً بأنّ عملية ترخيصه من الوكالة المذكورة ما زالت على ما يبدو تعاني مما هو أكثر من مجرّد «بيروقراطية»، نظراً لأنه توجد بلا شكّ مصالح معاكسة معيَّنة، عدا عن نفوذ الشركات الغربية المنافسة، تحاول تأخير العملية. وتجلّى هذا الأمر في بعض التناقض بالتصريحات من الطرفين الروسي والأوروبي خلال الأيام القليلة الماضية. فأول أمس الأربعاء 10 شباط، أصدرت وكالة الأدوية الأوروبية بياناً رسمياً غير معتاد، بعنوان «توضيح بشأن لقاح سبوتنيك V في عملية موافقة الاتحاد الأوروبي»، قالت فيه «لم تتلقَّ وكالة الأدوية الأوروبية حتى الآن طلب مراجعة متجددة أو تصريح تسويق للقاح طوره مركز غاماليا الوطني للأوبئة والأحياء الدقيقة في روسيا، للقاح Gam-COVID-Vac المعروف بـ Sputnik V، على الرغم من التقارير التي قالت عكس ذلك»، موحيةً بأنّ كل ما حصل رسمياً بين الطرفين حتى الآن هو أنّ اللقاح الروسي «مدرج في قائمة أدوية ولقاحات فيروس كورونا المستجد COVID-19 التي تلقَّت مشورةً علمية من الوكالة»، وقائلةً بأنّ الوكالة حالياً في حوار وتعاون مع الشركة الروسية الصانعة لتحديد الخطوات اللاحقة... ليأتي الردٌّ الروسيّ على ذلك سريعاً في اليوم نفسه، عبر تغريدة على حساب تويتر الرسمي للقاح سبوتنيك V، نصّها كما يلي: «ردّاً على بيان وكالة الأدوية الأوروبية EMA بأنهم لا يستطيعون العثور على طلب Sputnik V للمراجعة، نرفق أدناه صورةً لاستلام هذا الطلب من جانبهم، يحمل الرقم 1379253 منذ 29 كانون الثاني 2021. هناك 24 دولة قد سجلت Sputnik V بالفعل»، كما ختم الحساب الرسمي تغريدته هذه برمز تعبيري يحمل شارة النصر.

 

إضافة إلى ذلك فإنّ فالعالَم يترقب كم ستكون فعالية سبوتنيك V ضد سلالات كورونا الجديدة ولا سيّما السلالة التي ظهرت في جنوب إفريقيا، وخاصة بعد الضربة التي تلقاها لقاح أسترازينيكا البريطاني-السويسري الذي استوردت منه جنوب إفريقيا 1.5 مليون جرعة قبل أن يتبين ضعف فعاليته ضد السلالة الجنوب إفريقية، فعلّق هذا البلد الإفريقي استخدامه ويفتش حالياً عن بديل أو أكثر، من بينها «جونسون آند جونسون»، وسبوتنيك V واللقاحات الصينية.

كل هذه عوامل من شأنها تسريع حصول Sputnik V على الترخيص الطارئ EUL من منظمة الصحة العالمية، مما يترتب عليه بدوره إمكانية توزيعه الأكبر في العالَم وخاصة الدول الفقيرة، عبر منصة «كوفاكس»، ومنافسةً إضافية لباقي اللقاحات الغربية، ولا سيما للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، حيث إنّ إسهاماتهم في مجهود التلقيح العالَمي ما زالت أصلاً قليلة نسبة للطاقة الإنتاجية التي تحتكرها هذه البلدان الغربية لنفسها – بما يذكّر ببخل ودناءة «شايلوك» تاجر البندقية – كنهجٍ همُّه الأول الربح و«حقوق الملكية الفكرية» الخاصة، غير مكترثين بذهاب العالَم إلى جحيم المرض والموت، الأمر الذي اضطر مدير منظمة الصحة العالَمية إلى التحذير من «شفير إفلاس أخلاقي» بدأ يعاني منه العالَم بالفعل بسبب خطر حرمان الدول الفقيرة من اللقاح.

بالمقابل يبرز النموذج المعاكس من الروس والصينيين في بناء الشراكات وجسور التعاون و«الكسب المتبادل»، والتسهيلات فضلاً عن التبرعات المجانية، فالمثال الذي يعطينا إياه سباق اللقاحات بالفعل أبعد من مجرّد «أزمة صحّية» عابرة، إنها اليوم «أزمة الحضارة الغربية» بمعنى «أزمة الإمبريالية» المتعددة الأوجه، أساسها التعفن الاقتصادي-السياسي والسقوط الأخلاقي المرافق له على نحو غير مسبوق.

كانت إحدى وسائل البروباغاندا المعادية للقاح الروسي منذ البداية، لجوء وسائل الإعلام الغربية إلى بعض الشخصيات الروسيّة، التي اشتهرت من بينها مثلاً «سفيتلانا زافيدوفا» المديرة التنفيذية لـ«رابطة منظمات التجارب السريرية» في موسكو، والمعروفة اختصاراً بـ ACTO. حيث صرّحت لمجلّة «الطبيعة» Nature العلمية البريطانية الشهيرة في اليوم نفسه الذي تم فيه الإعلان عن اللقاح الروسي، بما يلي: «إنه أمر مثير للسخرية، بالطبع، الحصول على ترخيص ببيانات كهذه»، وأعربت عن «قلقها» بشأن الأمان والفعالية، حيث قالت «أعتقد أن نظامنا لمراقبة السلامة ليس هو الأفضل». وتهافتت عليها بعد ذلك عشرات وسائل الإعلام الغربية من الـ BBC إلى CNN، بوصفها «خبيرة روسية» ومن «داخل المطبخ»، مقتبسةً من تهويلاتها، رغم أنها غير مبرَّرة من وجهة النظر العلمية الموضوعية. وسبق أن تناولنا في قاسيون بعض التفاصيل العلمية والقانونية حول اللقاح ومعنى الترخيص الطارئ للقاحات عموماً آنذاك.

فمَن هي زافيدوفا؟ إنها ليست «خبيرة طبّية»، بل محامية تحتل منصب المديرة التنفيذية لهذه المنظمة التي تعرّف عن نفسها على موقعها الرسمي بأنها «منظمة غير تجارية للشركات أو الكيانات القانونية ومجتمع البحث السريري المنخرط في التجارب السريرية في روسيا»، تأسست عام 2007، كما لا تخفي أنّ أعضاءها ومموّليها هم 14 جهة معظمهم من عمالقة شركات الأدوية والكيماويات العالمية الغربية، والتي تضم إضافة إلى منافسين غربيين من صانعي لقاحات كوفيد مثل شركة فايز الأمريكية وشركة يانسن (صانعة لقاح جونسون آند جونسون) – تضم أيضاً شركة باير Bayer الألمانية ذات الماضي المُشين بتصنيع الأسلحة الكيميائية النازية وغاز الكلور في الحرب العالمية الأولى. وهدف منظمة الـ«آكتو» هذه هو تقديم أكبر عدد ممكن من المواطنين الروس إلى الشركات الأجنبية الغربية الراعية لتجرّب عليهم أدويتها ولقاحاتها.

 

وبالاعتماد على هذه الخلفية يستطيع القارئ الآن أن يفهم مغزى السطرين التاليين في المقال العدائي الباكر المذكور أعلاه، الذي نشرته مجلة «الطبيعة»:

«تعرب زافيدوفا أيضاً عن قلقها من أنّ الموافقة على اللقاح [سبوتنيك V] سوف تلحق ضرراً كبيراً بجهود إجراء تجارب سريرية على اللقاحات والأدوية الأخرى المضادة لكوفيد-19 في روسيا».

وهكذا فإنّ الهمّ الأساسي لدى عملاء الشركات الغربية، أمثال زافيدوفا، ليس على الإطلاق «الأمن والسلامة والفعالية»، بل ما أزعجهم، إضافة لأسبقية ابتكار وتسجيل لقاح روسي، هو أنّ يقوم قطاع صحي عام وطني بمنافسة استثمارات القطاع الخاص الأجنبي على إجراء التجارب السريرية على المتطوعين الروس، الذين ليسوا بالنسبة للشركات الأجنبية أكثر من «فئران تجارب». وسبق لزافيدوفا نفسها أن اشتكت بوقاحة في مقابلة معها تعود للعام 2012 من قانون جديد أصدرته آنذاك وزارة الصحة الروسية يتشدد في شروط أمان إجراء التجارب السريرية على الأراضي الروسية حرصاً على سلامة المواطنين، حيث اشترط القانون الجديد أن يمتلك أيّ باحث سريري ميداني خبرة لا تقل عن 5 سنوات في هذا المجال بدلاً من سنتين في القانون القديم، فقالت زافيدوفا آنذاك: «هذا سيعني انخفاض عدد الباحثين المؤهلين في روسيا. ونحن قلقون من أن الطَّلب سوف يفوق العرض في هذه الحالة، وهذا سيخلق مشكلة للشركات».

هكذا إذاً! القانون الروسي الذي يزيد سلامة التجارب السريرية ويرفع جودتها لحماية المواطنين ويرفع أجور العاملين في البحث العلمي السريري هو طبعاً مشكلة لبزنس شركات الأدوية الأجنبية والخاصة الباحثة عن تجارب سهلة ورخيصة، الأمر الذي لم تخفِه هذه العميلة للشركات الأجنبية في مقابلتها القديمة، حيث قالت عن بلدها روسيا إنه «بلدٌ مثيرٌ للاهتمام للغاية للموِّلين الدوليين للتجارب السريرية. فلدينا عدد كبير ومتنوع من المرضى الذين لم يسبق أن جُرِّبَت عليهم الأدوية المدروسة، ومعدلات عالية لتسجيل المرضى في التجارب».

 

إنّ الصراع الذي يرمز له المثال أعلاه، كما مجمل المعركة الشرسة ضدّ سبوتنيك V، والتي خرج منها هذا المنتوج الروسي منتصراً، هو صراعٌ بين توجُّه السيادة الوطنية في الأبحاث الطبية والدوائية والتبادل المتكافئ والتعاون الإنساني من جهة، ضدّ استمرار البلاد كمجرّد «سوق» للشركات الأجنبية والتبادل اللامتكافئ والنهب الإمبريالي من الجهة المضادة. وهذا أحد الدلالات العميقة لانتصار سبوتنيك V بوصفه «لقاحاً سيادياً» طوَّره قطاع عام وطني وبخبرات وطنية في بلدٍ كبير السكان والمساحة وفوق ذلك في روسيا (الوريث الجيوستراتيجي والتاريخي والعِلمي للاتحاد السوفييتي) في لحظة حساسة من رجحان متسارع لميزان القوى الدولي نحو الشرق وقطب الشعوب المتزايد الثقل على حساب القطب الغربي الإمبريالي المأزوم والمتراجع.