من أي الأبواب عادت روسيا لموقعها الدولي؟
فهمُ التموضع الدولي لكل قوة ودولة منخرطة في الشأن السوري هو أمر لا مفر منه لتكوين تصور صحيح عن طبيعة المصالح المتناقضة.
دون فهم تلك المصالح، فإنّ أي قوة سورية وحتى غير سورية، لن تكون قادرة على اتخاذ مواقف علمية وصحيحة. وفي هذا السياق فإنّ ما هو أهم بكثير من تصريحات هذه الدولة أو تلك، هو ممارساتها الفعلية. وربما أهم حتى من الممارسات أن نفهم السياق العام لها؛ أي بعدها الاستراتيجي من وجهة نظر الدولة المعنية، وهذا الأخير لا يمكن إدراكه دون فهم عميق للأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى التي تحكم الصراع الدولي والإقليمي.
هذه المادة ليست مكاناً كافياً لتحديد هذه الأبعاد كلها، ولكنها تناقش واحدة من الأفكار التي نسمعها بشكل متكرر من محسوبين على «الموالاة» ومن محسوبين على «المعارضة» أيضاً. تقول تلك الفكرة: إن سورية هي البوابة التي تعود من خلالها روسيا لدورها العالمي... وبعد أن نقف قليلاً مع هذه الفكرة، سنطرح ما نعتقد أنه الاستهداف السياسي من طروحات من هذا النوع...
بوابات العودة
لا شك بأنّ لسورية بوصفها مفتاحاً للشرق الأوسط بأسره، موقعاً متميزاً وشديد الأهمية ضمن الصراع الدولي بأسره. ولكن هذا لا ينبغي أن يدفع إلى مبالغات مفرطة ومنفصلة عن الواقع.
إذا حاولنا أن نحصي البوابات الأساسية التي تستعيد من خلالها روسيا دورها العالمي، عدا عن البوابة السورية، فإنّها تتضمن بكل التأكيد، البوابات التالية:
- التطور العسكري والتقني الهائل، بما في ذلك الصواريخ فرط الصوتية وصواريخ الدفاعات الجوية وخاصة S300 وs400، وطائرات الجيل الخامس، والجيل الخامس في تقنيات الاتصالات، وغيرها الكثير مما ليس بحوزة الولايات المتحدة حتى الآن، وباعتراف هذه الأخيرة، بل وباعتراف وزير دفاعها العام الماضي في جلسة استماع في الكونغرس حين صرّح بأنّ روسيا متقدمة عسكرياً على الولايات المتحدة بـ15 عاماً.
- العلاقات الاقتصادية الضخمة مع دول البريكس عموماً، والصين خصوصاً. وهي العلاقات التي تجاوزت مراحل التبادل بالعملات المحلية إلى التأسيس المشترك لنظام مالي دولي جديد، وهذه وحدها تزن في الميزان الاستراتيجي وزن حرب عالمية من عيار حربي القرن العشرين.
- خطوط الغاز مع أوروبا وتركيا، خط السيل الشمالي والجنوبي، وما يعنيه هذان الخطان من تشبيك اقتصادي طاقي بين أوروبا وآسيا. الأمر الذي يعني أيضاً، ضربة قوية لطرق التجارة البحرية التي تستند لها بريطانيا والولايات المتحدة تاريخياً، وتعنيان بالعمق، إرساء القواعد المادية لإنهاء البترودولار، وإنهاء الدولار تالياً...
- أبخازيا ومن ثم أوكرانيا واستعادة القرم، ومن ثم ناغورني كاراباخ، بما يحمله ذلك كلّه، من توسيع نطاق الأمان على التخوم المباشرة لروسيا والذي كان منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ملعباً لعمليات الناتو التخريبية، ولا يزال جزء منه كذلك...
- تطور العلاقات مع كل من تركيا وإيران بشكل غير مسبوق خلال القرون الخمسة الماضية! ولسورية هنا دور مهم في الإسهام بفتح هذا الباب عبر مسار أستانا، ولكن هذا المسار نفسه بالمعنى الاستراتيجي، قد تحول إلى أساس لبناء منظومة إقليمية جديدة بإطلالة دولية... يكفي أن نتذكر حجم المشاريع المشتركة الثنائية بين كل من روسيا وإيران وروسيا وتركيا، وربما أهم من ذلك نوعية تلك المشاريع... من المشاريع العسكرية المشتركة إلى مشاريع الطاقة النووية، وصولاً إلى التشاركية العلمية والبحثية، ناهيك عن السياحة والتبادلات التجارية المعتادة.
- العلاقات الروسية مع أمريكا اللاتينية، سواء كان الحديث عن فنزويلا أو كوبا أو البرازيل أو عدة دول أخرى أساسية ضمن القارة. وهي علاقات تجاوزت التبادل التجاري البسيط إلى التعاون السياسي والدبلوماسي والعسكري في أحيان عديدة، وباتت علاقات تضغط بشكل متعاظم وتثير الهستيريا لدى الولايات المتحدة.
- ولا يمكن أن نغفل أيضاً العلاقات مع الدول الإفريقية الأساسية والتي تتنامى بشكل مستمر، وإنْ كانت لا تزال في بداياتها.
- هنالك بوابة عامة أيضاً، هي التعاون مع الصين في الدفع نحو تأريض النزعة الفاشية لدى النخبة الغربية، سواء عبر محاربة الإرهاب في عدة أماكن في العالم، أو عبر العمل لدفع الحلول السياسية، وللتصدي للفوضى «الخلاقة» الأمريكية، سواء في منطقتنا أو في مناطق متعددة من العالم.
يمكن أن نورد نقاطاً إضافية عديدة، ولكن نكتفي بهذا القدر للانتقال إلى الجزء الثاني من نقاشنا...
لماذا التضخيم؟
أما لجهة من يطرح الفكرة التي بدأنا بها من جهة «المعارضة»، فيمكن تفسير ذلك ضمن الإحداثيات التالية:
- يعلم متشددو المعارضة أنّ الصراع في سورية جزء من الصراع الدولي، ولما كانوا ما يزالون يعولون على دعم غربي يحقق لهم ما يريدون، فإنّ من مصلحتهم التزلف للغرب بكل وسيلة ممكنة... وأي وسيلة أقرب لقلب الغرب من إظهار العداء لروسيا؟
- تضخيم وزن المسألة السورية بشكل غير منطقي في إطار الصراع الدولي، يستهدف استجلاب دعم إضافي؛ فالمحاججة تأخذ الشكل التالي: هل تريدون هزيمة روسيا؟ يكفي أن تهزموها في سورية...
بالنسبة للجزء من متشددي النظام الذي تصل فيه المبالغة حد القول إنّ روسيا ما كانت لتعود لدورها العالمي لولا سورية، فإنّ المقصود فيما نعتقد هو الأمور التالية:
أولاً، تضخيم دور المتشددين سواء من النظام أو من يحيط به، في ما جرى حتى الآن من ردع للمشاريع الغربية في المنطقة، تضخيماً مفرطاً القصد منه هو بالضبط الوصول إلى الموضوعة التالية: نحن من حققنا الانتصار لا روسيا، وروسيا تحتاجنا أكثر مما نحتاجها... ولذا فثمار النصر هي لنا وحدنا.
ثانياً، وربما الأهم، هو أنّ المقصود بالنصر هنا إغلاق باب التغيير الجذري الديمقراطي لمصلحة الشعب السوري، أي إبقاء الوضع السياسي على حاله وتحت سيطرة نخب المال ونخب الليبرالية الجديدة... وبكلمة واحدة: منع تطبيق 2254.
ولأنّ الروس كما هو معلن وواضح ملتزمون بالدفع نحو تطبيق 2254 حتى النهاية، فإنّ ذلك لا يعجب البعض. هذا البعض يريد لروسيا أن تعمل لديه ولمصلحته الخاصة الضيقة، وفوق ذلك يمنّ عليها بأنه هو من سمح لها بالعودة إلى موقعها الدولي... كل ذلك لأنّه يخشى في العمق حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه... ونراه لذلك لا يوفر فرصة لمهاجمة الروس بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وعبر الوسائل «غير الرسمية» بشكل خاص... وصولاً إلى توجيه تهديدات مباشرة لجنودها كما حصل غير مرة...