عن غربة السوريين... ولجوئهم
سعد صائب سعد صائب

عن غربة السوريين... ولجوئهم

تعرفون المشهد المتكرر لعملية التنويم المغنطيسي؟ المنوِّم يحرك نواساً أمام عيني «الضحية»، ويطلب منها أن تنسى كل شيء وتركّز نظرها في النواس المتحرك فقط...

هنالك ألعاب شبيهة لا بد أنها مرت ولو لمرة واحدة أمام أيٍ منا خلال تجوله على فيسبوك: انظر إلى النقطة وركّز نظرك لمدة 30 ثانية، وسترى النتيجة.

كلمة السر في المسألة هي «ركّز»؛ بالتركيز على تفصيل محدد تتشوش معالم الصورة العامة، وقد يصل بنا الأمر إلى حالة نصبح فيها منومين مغناطيسياً. كذلك يحاول المتشددون في النظام، والمتشددون في المعارضة، أن يقدموا لنا مسألة اللاجئين السوريين.

كل منهما يقدم سرديته الخاصة للوضع السوري (وهي طبعاً الحقيقة الكاملة المطلقة)، وعلى أساسها يكون اللجوء هو إثم الطرف الآخر الذي ينبغي اقتلاعه وإنهاؤه لحل المسألة؛ بل وأكثر من ذلك، فإنّ كلاً منهما يدّعي أن المناطق التي يسيطر عليها، باتت جاهزة لاستقبال العائدين (هذه ليست مزحة سمجة، هذه تصريحات فعلية يمكن الرجوع إليها).

 

فلنغمض أعيننا!

لتفادي الوقوع تحت تأثير التنويم المغنطيسي، فلنغمض أعيننا للحظة ونفكّر... هل بدأت غربة السوريين عام 2011؟

هل بين السوريين من فقراء الحال ومتوسطي الحال، من لم يسافر فرد من عائلته أو أكثر، لمرة أو أكثر، لعام أو أكثر، بغرض العمل في الخارج أو في هجرة نهائية، خلال العقود الأربعة الماضية؟

ربما أكون شخصياً عينة متطرفة ضمن إحصاءٍ من هذا النوع، لأنّ والدي وأعمامي جميعهم، وأخوالي جميعهم أيضاً، ليس بينهم واحد لم يسافر لعام على الأقل للعمل في الخارج: ابتداء من أعمال البناء والزراعة، ووصولاً إلى التعليم والطب وغيرها من الأعمال التي (تحتاج إلى شهادات كبيرة)... وذلك في لبنان وليبيا والأردن والخليج وأوروبا وغيرها.

ولماذا كان يتغرب هؤلاء؟ هل كان من الممكن تحصيل سكن لائق أو حياة لائقة بالنسبة لقسم كبير من السوريين دون السفر للعمل في الخارج؟

 

اللجوء والغربة

كل الأسباب التي تستعرضها الأطراف السياسية لأزمة اللجوء هي أسباب صحيحة إلى هذا الحد أو ذاك: الحرب، القمع، العنف، الفساد، الاستبداد، الإرهاب، العقوبات... إلخ، (علماً أن كل طرف يختار من بينها قائمته الخاصة المتناسبة مع سرديته).

ولكن ما لا يقوله لنا الطرفان، هو أنّ الأزمة التي انفجرت عام 2011، لم تكن التاريخ الذي بدأت معه الغربة السورية.

الغربة السورية بدأت قبل ذلك بعقود... ربما يمكن أن نؤرخ لها بالمعنى الاقتصادي مع بداية الثمانينيات، حيث كانت عملية «التقدم الاجتماعي» قد توقفت في سورية.

منذ ذلك التاريخ، كل ما جرى هو أنّ أحوال السوريين المعيشية، كانت تنحدر نحو الأسوأ... وابتداء من 2005 بات الانحدار سريعاً لدرجة أصبح معها وكأنه سقوط حر... هل ينبغي التذكير أن معدل الفقر ارتفع من 30% إلى 44% خلال 5 سنوات بين 2005 ونهاية 2009؟

 

المشكلة والحل

رغم أنّ أزمة اللجوء متعلقة بالظروف الناشئة بعد 2011، ولكن ما ينبغي أن يكون واضحاً هو أنّ اللاجئين لن يعودوا بمجرد حل وإنهاء الظروف الناشئة. عودة اللاجئين السوريين باتت تتطلب بالإضافة إلى معالجة الظروف الناشئة، معالجة مشكلة «الغربة» من أساسها. وإلا لماذا سيعود السوري إلى وضع يعرف أنه سيدفعه للغربة مجدداً؟ (اللهم إلا الذين يعيشون ظروفاً قاهرة، وخاصة في المخيمات).

المشكلة في عمقها فيما نعتقد، هي أنّ المنظومة السياسية الاقتصادية في سورية، قد دخلت بشكل تدريجي، وابتداءً من أواسط السبعينيات، إلى دوامة المنظومة الغربية الشاملة، منظومة المركز الناهب والأطراف المنهوبة والتابعة؛ منظومة التبادل اللامتكافئ.

فلننظر عن كثب. خلال هذه العقود، كان الاتجاه الثابت هو تغلب النشاط الريعي غير المنتج على النشاط المنتج (استيراد مواد مصنعة وتصدير مواد خام وثروات، العمل في العقارات والسياحة والخدمات والترانزيت، وبالتوازي مع تراجع الزراعة والصناعة)... هذه كلها مواصفات نموذجية لبلد يجري نهبه من الفساد الكبير المحلي، وعبره يجري نهبه من المراكز الدولية الكبرى. وهو نموذج لا يصدّر المواد الخام فقط، ولكن يصدر البشر أيضاً... وخاصة العقول. تلك المواصفات الكاملة لاقتصاد تابع ضمن منظومة النهب الخاصة بالاستعمار الغربي الحديث... نعم كنا مستعمَرين، ولا نزال!

ولذلك كلّه، فإنّ العودة إلى ما قبل 2011، عدا عن أنها وهمٌ وقبضٌ للريح، فهي لن تحل مشكلة اللاجئين. وكذلك فإنّ مجرد تغيير الطرابيش عبر تغيير السلطة دون تغيير النظام، لن يحل مشكلة اللاجئين... هل هنالك دليل أكثر وضوحاً ووقاحة من أن بعض المعارضة تصف المناطق التي تسيطر عليها بأنها باتت جاهزة لاستقبال عودة اللاجئين؟ أليس هذا دليلاً على نوعية «النظام المستقبلي» الذي تعد به؟

عودة اللاجئين الفعلية، وإضافة إلى القائمة الطويلة من المتطلبات، لن تتم دون تغيير جذري وشامل لطبيعة النظام القائم، ليس طبيعته السياسية فقط، ولكن أهم من ذلك: طبيعته الاقتصادية- الاجتماعية، والتي تتحدد ببساطة بالإجابة عن السؤال التالي: عن مصلحة من سيدافع النظام القادم؟ هل سيدافع عن مصالح الأثرياء والتجار الكبار؟ إذا كان كذلك، فاقطعوا الرجاء من عودة اللاجئين. هل سيدافع عن مصالح المنتجين الحقيقيين، عن مصالح عامة الشعب الذي بات فقيراً بعمومه؟ إذا كان كذلك فإنّ اللاجئين سيعودون، وتدريجياً...